2leep.com

التابعي محمد بن سيرين

عرض القصة

 

  الصفحة الرئيسية » ركـــن القـصــص » سير التابعين - لدكتور محمد راتب النابلسي

اسم : التابعي محمد بن سيرين
كاتب :

سير التابعين الأجلاء- رقم الشريط 9|20: ( التابعي محمد بن سيرين)- لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ما معنى هذا القول ؟

أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيّ الجليل اليوم هو محمد بن سيرين .

نقف وقفة متأنية عند من وصفه, فقال: ((ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه, ولا أورع في فقهه, من محمد بن سيرين)) .

معنى هذا القول؛ أن هناك من الرجال من هو فقيه، لكنه ليس ورعاً، ومَن هو ورع، لكنه ليس فقيهًا، فأنْ تجمع بين الفقه والورع هذه صفة جليلة في الإنسان .

أيها الأخوة، التطرف سهل، لكن أن تجمع بين النقيضين, فهذا يحتاج إلى بطولة، مثلاً: أن تكون ليناً, فالقضية سهلة، أنْ تكون قاسيًا أسهل، لكن أن تجمع بين القساوة واللين، هنا البطولة، أن تكون مرهوباً, فقضية سهلة، أن تكون مرغوباً أسهل، أمّا أن تكون مرهوباً مرغوباً, فهذا مِنَ البطولة بمكانٍ .

لذلك المربون دائماً لو أنهم تطرفوا إلى إحدى الصفتين لسقطوا، فلا تكن ليناً فتعصر، ولا قاسياً فتكسر .

إنّ الله عز وجل وصف الأنبياء بأنهم يعبدون الله رغباً ورهباً، خوفاً وطمعاً, فكما قلت قبل قليل: الحالة المتطرفة سهلة، لكن أن تجمع بين اللين والقسوة، وبين الرهبة والرغبة، وأن يرجوك الإنسان، وأن يخافك في وقت واحد .

أنْ تكون فقيهاً, فقضية سهلة، تحتاج إلى ذكاء، وإلى مطالعة، وإلى قراءة، وإلى حفظ، لكن أن تجمع بين الفقه والورع، أو أن تجمع بين الورع والفقه, فهنا البطولة، لذلك قالوا: الفضيلة وسط بين طرفين .

ترك الدنيا سهل، وترك الآخرة سهل، ولكنَّ البطولة أن تجمع بينهما، ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعا، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلا على الناس .

أنْ توحِّد، ربما حمَلك التوحيد على أن تكون قاسياً مع الناس، وأنْ تغرق في الحُبِّ على حساب التوحيد, فهذا منزلق أيضاً، لكن أن تجمع بين التوحيد والحب, فهذه بطولة الأبطال .

لا يوجد رجل على وجه الأرض أحبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كالصِّدِّيق، لكن حينما مات النبي عليه الصلاة والسلام ما حمله حبه له أن يخرج عن قواعد التوحيد، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: ((فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ, فَقَالَ: اجْلِسْ فَأَبَى, فَقَالَ: اجْلِسْ, فَأَبَى, فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ, وَتَرَكُوا عُمَرَ, فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ..... إِلَى الشَّاكِرِينَ﴾, وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا, حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ, فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا)) .

أحياناً يوَحِّد الإنسان مع قسوة، أخي أنا رزقي على الله، ولستُ بحاجةٍ إليك، أمَا سمِع بحديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ)) .

أحياناً التوحيد يحمل الإنسان على مواقف فظّة، وأحياناً الحبّ الشديد يحمل الإنسان على الشرك، تحبُّه حتى تعبده من دون الله، فالبطولة أن تجمع بين التوحيد والحبّ، بين الدنيا والآخرة، بين الرجاء والخوف، بين الرهبة والرغبة، بين أن تكون ورعاً، وبين أن تكون فقيهاً.

هناك أشخاص عندهم ورع، كل شيء عندهم حرام، كلما سئل أحدُهم, قال: هذا حرام حرام، حتى عطل بذلك الحياة، ليس هذا هو الفقه، أنْ تدرأ المسؤولية بالتحريم، هذا ليس فقهاً ، يجب أنْ تعطي الفتوى التي أنت منها واثق مع الدليل، أنْ تعطي الرخصة، إذا كان هناك رخصة، فالفقهاء الكبار يفتون لأنفسهم بالعزائم، وللمسلمين بالرخص رحمةً بهم، خذ نفسك بالعزيمة، هذا فضيلة فيك، أما أنْ تحمل الناس على العزائم، وأن ترهقهم، وأن تهلكهم، فليس هذا هو الورع .

إذاً: أيها الأخوة, أعجبتني كلمة الذي وصف هذا التابعي الجليل: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه, ورع مع فقه، فقيه مع ورع، ولا تنسوا أن ركعتين من ورع خير من ألف ركعة من مخلط .

ما هي حرفة والد ابن سيرين, وماذا عن العمل في الإسلام ؟

عزم سيرين-الحديث عن محمد بن سيرين-، فإذا قلنا: عزم سيرين، فهو أبوه, عزم سيرين على أن يستكمل شطر دينه بعد أن حرّر أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه رقبَتَه .

إذاً: والد محمد بن سيرين كان مملوكاً لسيدنا أنس بن مالك، وبعد أن غَدَتْ حرفته تدرُّ عليه الربح الوفير، والخير الكثير، فقد كان نحّاساً ماهراً، يتقن صناعة القدور .

سيدنا عمر, يقول: ((إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني، وقيمة كل امرئ ما يحسنه)).

أنا لا أنسى هذه القصة التي رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ: فَقَالَ: ((أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى, حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ, وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ, وَقَعْبٌ - إناء - نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ, قَالَ: ائْتِنِ بِهِمَا, قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا, فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ, وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ, قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا, قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ - المزايدة واردة - فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ, وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ, وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ, وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ, وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَائتِنِ بِهِ, فَأَتَاهُ بِهِ, فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ, ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ, وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا, فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ, فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ, فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا, وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ, أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ, أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ))

[أخرجه أبو داود في سننه]

فكل إنسان له حرفة، تجارة، صناعة، فهذا شرف، والإنسان يكتسب شرفه مِن عمله، ومِن حرفته، ومِن صنعته، وكان أصحاب رسول الله رهباناً في الليل، فرساناً في النهار .

أنا أعجب لهذا المؤمن المتفوق في عمله، المتقن لعمله، الذي يكسب قوت يومه، ويده عليا، وهو في الصف الأول في مجالس العلم، وهو في مقدمة المؤمنين، والعار أنْ ترتكب العار، والعار ألاّ تعمل، فالعمل مقدس .

سيدنا عمر يقول لأحد الولاة: ((إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملاً, التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية)) .

إنّ العمل عبادة، وهذا يضطرني مرةً بعد مرة إلى أن أقول لكم: إن حرفة الإنسان إذا كانت في الأصل مشروعة، وتعامل معها الرجلُ بطريقة مشروعة, وابتغيتَ بها كفايَةَ نفسك وأهلك، وابتغيت بها خدمة المسلمين، ولم تشغلك عن فريضة, ولا عن طلب علم، انقلبتْ هذه الفريضةُ إلى عبادة .

فأنت في دكانك، أو في مكتبك، أو في حقلك، أو في وظيفتك، أو في عيادتك, أنت من عباد الله عز وجل .

مرةً بعد مرة أقول لكم: النبي رأى رجلاً يصلي في المسجد في غير أوقات الصلاة، قال: ((من يطعمك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك, الصحابة الكرام أثنوا على رجل ثناءً طيباً، قال عليه الصلاة والسلام: من يطعمه؟ قالوا: كلنا يطعمه، قال: كلكم أفضل منه)) .

بصراحة أقول لكم: لا أحد يحترمك، ولا يحترم دينك إلا إذا كنت متفوقاً في عملك, ويمكن أن تكون أكبر داعية في عملك، وأنت ساكت، من خلال إتقانك للعمل، وإحسانك في المعاملة، والصدق والأمانة .

أكبر دولـة إسلامية الآن ما هي؟ إندونيسيا، فيها مائة وخمسون مليون مسلم، هذه أكبر دولة إسلامية في العالم، إنما دخلها الإسلام عن طريق التعامل التجاري، لا عن طريق الجهاد، ولا عن طريق السيف، وهذا مصداق ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: ((التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

لا لأنه ربح المال الوفير، واستمتع به، بل لأنه أعطى نموذجاً كاملاً للمسلم .

رجل يبيع البيض، جاءه زبون، فقال له: عندك بيض، قال له: نعم، قال له: طازج، قال: لا والله، ليس طازجًا، الطازجُ عند جاري، هذا المسلم لا يكذب أبداً، والله يرزقه .

لو لبس الإنسانُ لباساً متبذلاً في أثناء العمل، ولو كان عمله مع الزيوت والشحوم، فهذا عمل نظيف .

قال لي رجل مرةً يعمل عملاً أساسه إيقاع الأذى بالآخرين، ما رأيت مكتبًا أفخم من مكتبه، قال لي بالحرف الواحد: أنا عملي قذر، لحكمة بالغة في اليوم التالي ذهبت لأصلح مركبتي عند أخ كريم، في أيام الشتاء، والطريق وحل، وهو يلبس ثياب العمل، أزرق على أسود، كله شحم وزيت، واستلقى تحت المركبة وفكَّ الجهاز، ما شعرتُ إلا وهو يقوم بأنظف عمل، في العين الظاهرة العمل فيه وحل وزيت وشحم، ولكنّه يقوم بأنظف عمل، لأنه عمل شريف، لقد قدّم خدمة، وأخذ أجرها بشكل معتدل .

كلمة نظيف عميقة جداً؛ لا تعني أن المكان نظيف، تعني طريقة الكسب نظيفة .

أكثر أماكن اللهو فيها أناقة ما بعدها أناقة، لكنها أماكن قذرة، مبنية على تحطيم الإنسان، وعلى إفساده، والمرأة هناك سلعةٌ محتقرة، أما محل متواضع في سوق شعبي، بيع وشراء، فهذا عمل شريف ونظيف، فابحثْ عن النظافة في التعامل .

إليكم قصة زواج والد محمد بن سيرين :

وقد وقع اختياره على مولاة لأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه, تُدعى صفية لتكون زوجة له .

والده مملوك عند سيدنا أنس بن مالك، تزوج مولاة سيدنا الصديق اسمها: صفية، كانت صفية جارية في بواكير الشباب، وضيئة الوجه، ذكية الفؤاد، كريمة الشمائل، نبيلة الخصائل، محبَّبة إلى كل من عرفها من نساء المدينة، وكانت أشدَّ النساء حباً لها زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما السيدة عائشة .

تَقدَّم سيرين إلى أمير المؤمنين فخطب منه مولاته صفية، فبادر الصديق رضي الله عنه إلى البحث عن دين الخاطب وخلقه، كما يبادر الأب الشفيق للبحث عن حال خاطب ابنته.

بالمناسبة؛ أنا الذي أراه أنه إذا كان لصحابي مولى، فهذا المولى لا يختلف إطلاقاً عن الابن، بل أن يكون الإنسان مولى لمؤمن, القصدُ من ذلك أن يرى الإسلام عملياً، فهذا الذي أغلق عقله عن أن يفهم الإسلام، ربما فهِمَه بالتعامل الإنساني، هذا أصل أن يكون الإنسان مولى أو مولاة .

مضى يستقصي هذا الصحابي الجليل الصديق أحوال سيرين أشد الاستقصاء، ويتتبع سيرته أدق التتبع، وكان في طليعة من سألهم عنه أنس ابن مالك، فقال له أنس: ((زوِّجها منه يا أمير المؤمنين، ولا تخش عليها بأساً، فما عرفته إلا صحيح الدين، رضي الخُلُق, موفور المروءة، ولقد ارتبطت أسبابه بأسبابي منذ سباه خالد بن الوليد .

وافق الصديق على تزويج صفية من سيرين، وعزم على أن يبرهما كما يبرّ الأب الشفيق ابنتـه الأثيرة، فأقـام لإملاكهما حفلاً قلمـا ظفرت بمثله فتاة من فتيات المدينة، وقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كبار الصحابة، كان فيهم ثمانية عشر بدرياً .

-فإذا كان الإنسان ميسور الحال، وزوج ابنته، أو زوج ابنه، وأقام حفلاً كريماً فيه مديح لرسول الله، وقدّم الطعام، وقدّم الضيافة, فهذه فرحة لا تُنسى .

أنا من أنصار أن يُعلن النكاح، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام إخفاء الخطبة، وإعلان النكاح، وأن يُقام عقدُ قران يُدعى له أقرباء الزوجين العروسين، وتُقدم فيه الضيافة، وتُلقى كلمات تُعرِّف الناس بربهم، وبنبيهم، هذا عمل طيب، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

أحياناً بعض الآباء يحب أن يوفِّر، هي فرحة في العمر، تبقى غصّة في قلب الفتاة طوال حياتها، ويبقى عدم الاحتفال غصّة في قلب العروس طوال حياته- .

فقد شهد إملاكها طائفة كبيرة من كرام الصحابة، فيهم ثمانية عشر بدرياً, ودعا لها كاتب وحي رسول الله أبي بن كعب، وأمّن على دعائه الحاضرون، وطيَّبتها وزيَّنتها حين زُفت إلى زوجها ثلاثٌ من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عليهم أجمعين، والنكاح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام)) .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, يَقُولُ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ, فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ, وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح]

وكلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام, يقول: ((ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ؛ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ, وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

ما مِن شاب يغض بصره، ويحفظ فرجه، فهذا الإنسان حقٌّ على الله أنْ يعينه إذا طلب العفاف، وهناك آلاف القصص التي تؤكد هذه الحقيقة .

متى ولد محمد بن سيرين, وعمن أخذ العلم, وما هو الموطن الذي استقر فيه ؟

ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ورُبِّيَ في بيت يتبوَّأ الورع والتقى من كل ركن من أركانه، ولما أيفع الغلامُ الأريبُ اللبيبُ وجدَ مسجدَ رسول الله .

إنّ رواد المساجد مبارَكون، رواد المساجد وطلاب العلم تضَع الملائكة تضع أجنحتها لهم رضى بما يصنعون، رواد المساجد مؤمنون وربِّ الكعبة، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾

[سورة التوبة الآية: 18]

رواد المساجد هم المباركون؛ لأنه خير البلاد مساجدها، وشرها أسواقها، فلا يضن الإنسان على نفسه بساعتين في الأسبوع أو ثلاث ساعات .

الأسبوع كم ساعة، أتعرفون؟ مائة وثمان وستون ساعة، فإذا خصّص الإنسان منها أربع ساعات لمعرفة الله ومعرفة الدار الآخرة، وأربع ساعات مواصلات، فهذه ثماني ساعات، فلا مانع من أجل أن تعرف الله، من أجل أن يرضى الله عنك، من أجل أن يُبنى الإيمان لبنة لبنة .

لا يوجد إنسان عظيم إلا إذا ارتاد المساجد، وجلس على ركبه ليطلب العلم، لا يوجد إنسان متألق إلا وتتلمذ، وأخذ العلم عن الرجال، إنسان يتألق بالعلم، ولا يرتاد المساجد, هذا مستحيل .

هذا التابعي تلقى العلم عن كبار الصحابة والتابعين، تلقى العلم عن زيد بن ثابت، وأنس ابن مالك، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي هريرة .

حدثني أحد أخواننا الكرام, وكان له دعوة إلى الله، عنده طالب تركي، فوكّل بعض أخوانه بتعليمه، تعلم وأخذ شهادة، وعاد إلى بلده، وبعد عدة سنوات, طُرق باب الشيخ، فإذا بمركبتين كبيرتين تُقِلاَّنِ مائة طالب علم، كلهم تلامذة هذا الطالب الذي درس العلم على يد هذا العالم، يقول هذا العالم وهو يبكي: يا رب, أنا علمت واحداً، وكان من آثار هذا الواحد كل هؤلاء .

فكان تلاميذ الشيخ يمزحون معه، وهم قد علموه، يسألونه حينما تذهب إلى تركيا إذا سُئلت: مَن شيخك، من تقول؟ فأغفل أسماءهم, وذكر اسم شيخه الكبير، قال: أنتم لا أحد يعرفكم، أنا تلميذ فلان .

هي طرفة، الإنسان يفخر بأستاذه، فكيف بزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة؟ هؤلاء أساتذة هذا التابعي الجليل، الذين أقبل عليهم إقبال الظامئ على المورد العذب، فنهل من علمهم بكتاب الله، وفقههم بدين الله، وروايتهم لحديث رسول الله، فما أفعم عقله حكمة وعلماً، وأترع نفسه صلاحاً وهداية، ثم انتقلت الأسرةُ مع فتاها إلى البصرة, واتّخذتْها لها موطناً .

أتلاحظون البصرة كيف جذبت لها طلاب العلم؟ كانت البصرة يومئذ مدينة بكراً، اختطَّها المسلمون في أواخر خلافة الفاروق عمر، وكانت تمثل جُلَّ خصائص الأمة الإسلامية ، ومركزًا من مراكز التعليم والتوجيه للداخلين في دين الله، وصورة للمجتمع الإسلامي الجاد الذي يعمل لدنياه، كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته, كأنه يموت غداً .

غير معروف

تاريخ الاضافة: 20-01-2011 08:51

الزوار: 1676

طباعة


التعليقات : تعليق
« إضافة تعليق »
اضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
3 + 2 = أدخل الكود

RSS

Twitter

Facebook

Youtube

wewe