أثارت ما تسمى بخطة الإنقاذ المالية الأمريكية التي تم إقرارها الأسبوع المنصرم، ارتياحا واسعا لدى إدارة بوش بالدرجة الأولى، ولدى عدد كبير من النواب الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، تبعهم شريحة من المراقبين والخبراء الاقتصاديين، لكن غياب الثقة عن الأسواق المالية في أمريكا والعالم، إضافة إلى تحركات كبيرة وسريعة لمعالجة آثار الأزمة المالية الأمريكية على أسواق المال في أوروبا وروسيا واليابان تركت شكوكا كبيرة حول مدى فعالية ونجاح هذه الخطة التي تم إقرارها، وعما إذا كانت قادرة على مواجهة الأزمة المالية أم لا؟ وما هي الفترة اللازمة لها في حال أمكنها ذلك؟
الخطة كما تم الإعلان عنها تبلغ قيمتها 700 مليار دولار، مما يجعلها أكبر تدخل للسلطات الأمريكية في الأسواق المالية منذ أزمة "الركود الكبير" في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وتمنح هذه الخطة التي سيتم تطبيقها على مراحل (تنتهي المدة القصوى لتنفيذها في 31 من كانون الأول 2009 مع احتمال تمديدها بطلب من الحكومة لفترة أقصاها سنتان اعتبارا من تاريخ إقرارها) الدولة الوسائل والسلطة اللازمة لشراء الأصول الهالكة للمؤسسات المالية التي تواجه صعوبات بسبب أزمة الرهن العقاري، وتبلغ قيمة هذه الأصول الهالكة المتاح للخزينة إمكانية شراؤها حوالي 250 مليار دولار مع إمكانية رفعه إلى 350 مليار دولار فيما يبلغ السقف الأعلى لعمليات الشراء 700 مليار دولار مع امتلاك أعضاء الكونجرس حق النقض "الفيتو" على ما يتعدى الـ350 مليار دولار.
وبما أن مبلغ 700 مليار دولار سيأتي من الخزينة العامة (أي من المواطنين دافعي الضرائب)، فإن حصة من عائدات المصارف التي ستستفيد من خطة الإنقاذ ستذهب إلى دافع الضرائب الأمريكي؛ لأن الدولة ستصبح شريكا في رأس مال هذه الشركات، والفكرة من وراء حصول الحكومة على أسهم في البنوك التي تستفيد من خطة الإنقاذ هي ضمان استفادة دافعي الضرائب من أي مكاسب قد تحققها هذه البنوك في المستقبل بعد انتهاء الأزمة في حال نجاح الخطة.
بين مؤيد ومعارض
يعتقد المعارضون للخطة وللنتائج الإيجابية التي من الممكن أن تتمخض عنها أن دفع 700 مليار دولار من الخزينة العامة أمر غير سوي في ظل اعتماد النظام الرأسمالي والسوق الحرة، وأن الخطة ستفيد الأثرياء في الأسواق المالية لا دافعي الضرائب، على اعتبار أن الخطة تهدف إلى إنقاذ مؤسسات هي شركات خاصة في الأساس دفعها جشعها وطمعها في الربح إلى اعتماد تصرفات غير مسئولة وسياسة إقراض متساهلة تجاوزت قدراتها الحقيقية، ليأتي المواطن ويتحمل وزر خسائرها في النهاية، وهو أمر غير مقبول.
غير أن المؤيدين الذين وافقوا وصوتوا عليها يرون أنها ضرورة وليست خيارا في السباق مع الوقت والخوف من أن تصل تداعيات الأزمة المالية إلى الاقتصاد الكلي، كما أن هؤلاء يطرحون فكرة أن تقوم الخطة بإفادة المواطن دافع الضرائب مستقبلا عبر تحويل جزء من الأرباح التي ستحصل عليها المؤسسات المتعثرة في حال نجحت في تخطي الأزمة الحالية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "من قال إن الخطة ستعيد الوضع على ما كان عليه قبل الأزمة وإنها ستعالج أزمة السوق المالية والاقتصاد؟ وكيف نضمن أن المؤسسات ستربح ولن تخسر هي الأخرى مستقبلا؟
معالجة أم وقف نزيف؟
المتمعن في الخطة لا يمكنه أن يرى بعدا مستقبليا لها، فهي مدرجة في إطار وقف النزيف ومنع المزيد من التدهور، وليست في إطار معالجة الأزمة، فإيقاف النزيف لا يعني تحسين الوضع وإنما وقف تدهوره نحو الأسوأ الذي هو الانهيار الكامل.
ومن هذا المنطلق يعتقد كثيرون أن الخطة لن تغير الوضع بالمجمل، وهي ذات مفعول قصير الأمد وذات طابع نفسي أكثر من كونه عمليا تهدف إلى تقديم دعم معنوي كبير لإعادة الثقة للمستثمرين في أسواق المال والبورصات، على أمل أن ينعكس ذلك إيجابا على إنعاش السوق والاقتصاد مرة أخرى.
وتعتمد الخطة في الأساس على العامل النفسي لتهدئة الأسواق ومنع تدحرج كرة الثلج، لكن المشكلة التي تطرح نفسها هنا هي "هل الـ700 مليار دولار" كفيلة بإعادة الثقة وتحسين الوضع؟ للإجابة على هذا السؤال، عادة ما يتم النظر إلى المؤشرات الاقتصادية الكبرى، فإذا كانت متجهة صعودا، فإن ذلك يعني أن الخطة من شأنها أن تحفز المستثمرين، لكن واقع الاقتصاد الأمريكي يشير إلى عكس ذلك تماما، إذ يبدو أن الاقتصاد قد دخل مرحلة الهبوط الحاد منذ سنوات، إذ تشير الأرقام المتاحة إلى أن الدين العام الأمريكي الكلي بلغ حوالي 53 تريليون دولار في العام 2007 (يوازي 470% من الدخل القومي)، ولا شك أنه ازداد العام 2008، أماالدين العام الفيدرالي الحكومي، فقد بلغ نهاية عام 2007 حوالي 9.2 تريليونات دولار، ويبدو أنه يتجه ليبلغ 11.5 تريليون دولار مع إقرار خطة الإنقاذ المالية، وقد يزيد عن ذلك عندماحين موعد مغادرة إدارة بوش البيت الأبيض في كانون الثاني 2009، وفيما يتعلق بالعجز في الميزان التجاري، فقد بلغ في العام 2006 الرقم (758 مليار دولار) أي بزيادة حوالي 47 مليار دولار عن العام 2005.
هذه الأرقام تفيد أن الاقتصاد الأمريكي سيمر في فترة ركود قاسية جدا، ولا مؤشرات إيجابية في ظل ارتفاع أرقام الدين العام بشكل فلكي على كافة الأصعدة كما رأينا، وقد بدأت مظاهر الركود في التسرب وأولها ترك ما يزيد عن 850 ألف موظف لوظائفهم وبقاؤهم دون عمل خلال الفترة الممتدة منذ أوائل العام وحتى اليوم، فأين موقع خطة الإنقاذ من هذه المؤشرات الاقتصادية؟! وهل هي قادرة على معالجة كل هذا الوضع؟!
مقارنة في غير محلها
البعض يربط بين الأزمة الحالية وأزمة الكساد العظيم عام 1929 ويراهن على نجاح الخطة مستشهدا بنجاح الاقتصاد الأمريكي في تجاوز أزمة 1929 واستعادة عافيته، لكن هؤلاء ينسون أو يتناسون أن الظروف مختلفة أولا، وأن الوضع الاقتصادي مختلف أيضا، والأهم من ذلك أن طريقة المعالجة مختلفة، فخطة الرئيس "روزفلت" لتجاوز أزمة أواخر العشرينيات والتي عرفت باسم "ذا نيو ديل"، كانت ذات أبعاد إصلاحية اجتماعية واقتصادية، ولم تكن مخصصة لمعالجة وضع السوق المالية فقط كما هو الحال في الخطة الأمريكية التي تم إقرارها مؤخرا، والتي يمكن وصفها بأنها "مسكن موضعي مؤقت"، فهذه الخطة تقوم على شراء الأصول الهالكة من المؤسسات المتعثرة لمنعها من الانهيار، لكنها لن تقدم سيولة حقيقية وتزيد من رأس المال، وهي قد تسيل قروض البنوك المتعثرة، وهو ما سيزيد الأمور تعقيدا إذا لم يكن هناك ثقة بالسوق، إذ سيؤدي ذلك إلى تلبية الطلب على سحب الودائع، والطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها زيادة رأس مال المؤسسات المتعثرة هي دفع ما يزيد عن القيمة الحقيقية لأصولها الهالكة، وهو ما لم ولن يتم.
إن كارثة الكساد الكبير ما كان من الممكن تجاوزها إلا في إطار إعادة النظر بسياسات آدم سميث الداعية إلى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي (مبدأ اليد الخفية)، ولذلك فإذا ما كنا متفائلين في إمكانية تجاوز الأزمة، فإن هذا التفاؤل لا بد أن يستند في النهاية إلى ضرورة إعادة النظر في النظام المالي والنقدي العالمي ككل.
الركود قادم
التداعيات إذن أكبر من أن تعالجها خطة بقيمة 700 مليار دولار، فالرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" وصف الأزمة قائلا: "إن الأزمة عميقة، وإن النظام المالي العالمي كان على وشك كارثة، وإننا في حاجة إلى إعادة بناء النظام النقدي والمالي العالمي من جذوره، ففكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة دون قيود، ودون تدخل الحكومات هي فكرة مجنونة، وفكرة أن الأسواق دائما على حق هي فكرة مجنونة أيضا"، ومثله شخّص وزير المالية الألماني "بير شتاينبروك" فقال: "إن المسئولية تقع على عاتق الولايات المتحدة فهي تقود إستراتيجية أنجلوسكسونية لتحقيق أرباح كبيرة ومكافآت هائلة للمصرفيين وكبار مديري الشركات والعاملين في البنوك الاستثمارية والساسة في نيويورك وغيرها.. والعالم لن يعود أبدا إلى ما كان عليه قبل الأزمة، والولايات المتحدة ستفقد مكانتها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي"، فهل بإمكان خطة بـ700 مليار أن تحل أزمة أصبحت تحتم إعادة النظر بالنظام النقدي والمالي العالمي؟!
وعلى فرض أن الخطة الحالية استطاعت حل مشكلة وأزمة الأسواق المالية، فما هي الحلول المقدمة لمعالجة الوضع الاقتصادي الكلي المتدهور منذ سنوات في أمريكا؟!
يجيب معظم المسئولين الأمريكيين والخبراء الاقتصاديين على هذا السؤال بأن الركود القاسي قادم لا محالة، وأنه إذا ما كان هناك شيء مساعد في الأفق فهو لن يمنعه وإنما سيقصر أجله فقط، بمعنى آخر، لا حلول حقيقية مقدمة لمعالجة الوضع الاقتصادي الأمريكي حاليا، ولا خطة متبلورة في هذا الإطار.
وإذا لم يتم تحصين الاقتصاديات العالمية (وهو أمر في غاية الصعوبة الآن في ظل ارتباط معظم الاقتصاديات العالمية بالاقتصاد الأمريكي)، وإعادة النظر في النظام المالي والنقدي العالمي، فإننا مقبلون على كارثة اقتصادية عالمية عندما يدخل الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود العميق والطويل. |