|
أمريكيون يتظاهرون ضد خطة بوش للإنقاذ المالي | بخلاف أمم الأرض فلا أظن أحدا من القادة العرب قادرا على أن يصدق أنه ثمة أزمة مالية طاحنة تعصف بالنظام الاقتصادي العالمي، وأن هذا النظام قد ينهار بين عشية وضحاها.
ففي الوقت الذي انهارت فيه بعض كبريات المؤسسات المالية في الولايات المتحدة وتضررت آلاف أخرى في أنحاء مختلفة من العالم، ما زلنا نعيش صمتا عربيا رسميا حيال الأزمة، وكأنها لا تعنيهم رغم أن أكثر الدول العربية وأغناها تربط عملتها بالدولار غير آبهة بالنتائج أو أنها لا تقدر على الانفكاك منه بفعل الضغوط والتهديدات الأمريكية.
أما المواطن العربي فما زال، كعادته، غارقا في سباته وكأنه يعيش في كوكب آخر، وأخشى ما أخشاه أن يستفيق، فجأة، على مصائب وكوارث لا حصر لها، فالأزمة ليست طارئة ولا عابرة، وببساطة لو أن الكونجرس الأمريكي لم يوافق على خطة الإنقاذ القاضية بشراء ديون الرهن العقاري البالغة قرابة 700 مليار دولار في جلسته الثانية لاستفقنا، بلا أدنى شك، على فوضى عالمية لن يفلت منها أي تشكيل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي كائنا من كان.
ويكفي أن يتخيل الناس حجم الفزع الذي أصاب الأمريكيين عموما حين رفض الكونجرس الموافقة على الخطة في الجلسة الأولى ليدركوا حقيقة المصيبة الاقتصادية العالمية بالنظر لارتباط النظام الاقتصادي العالمي بالدولار الأمريكي.
فما الذي خلفته الأزمة؟ وما الذي نتوقعه من التدخل الحكومي؟
تعددت الأسباب والأزمة واحدة
بداية.. لابد من الفهم أن النظام الاقتصادي الحر المسمى بالرأسمالية يشتمل على عدة أشكال من الرأسمالية، إذ ثمة رأسمالية تجارية، وأخرى صناعية، وثالثة مالية، ورابعة خدماتية.. وهكذا.
أما محور الأزمة الراهنة فقد وقع في إطار الرأسمالية المالية، وعلى وجه الخصوص في شركات الرهن العقاري التي تسببت ديونها فقط في ضرب كافة منتجات الرأسمالية المالية من بورصة وأسهم وسندات وبنوك ومصارف وشركات تأمين وصناديق ادخار وإقراض وصناديق سيادية وغيرها، وعبر هذا الشكل من الرأسمالية تعرضت باقي الأشكال إلى أضرار فادحة لتلقي بتداعياتها على الاقتصاد العالمي.
ولو فتشنا عن أسباب انهيار سوق الرهن العقاري لاختلفت التحليلات والتفسيرات وتباينت، فثمة من يعيدها إلى فوضى السوق بلا أية ضوابط، وآخر يعيدها إلى سقم المنظومات القانونية التي تحكم حركة السوق الحرة، وثالث يعيدها إلى الرغبة في تحقيق أرباح سريعة، ورابع يردها إلى خداع العملاء من العامة الذين رغبوا في امتلاك بيوت بسرعة قياسية بخلاف الأنظمة التقليدية التي تسمح للفرد بتملك البيت.
والحقيقة أن الأسباب كثيرة وكلها نسبيا تعبر عن جزء من الحقيقة، لكنها، حتى لو اجتمعت بكاملها، فلن تعبر عن إجمالي الحقيقة في تفسير الأزمة.
لذا ليس مهمًا ما حدث وما زال يحدث بقدر ما ينبغي الاهتمام بالمعاني التي أفرزتها الأزمة ووجوب التنبه لما يمكن أن يحدث مستقبلا، إذ إن أزمات النظام الرأسمالي آخذة بالتفجر الواحدة تلو الأخرى، ولا مناص من التحذير من قابل الأيام حيث لم تعد ثمة ثقة في حقيقة المعلومات التي تصلنا عن جواهر الأزمة وإن كانت، ظاهريا، تبدو أزمة مالية.
أولا:ميزة الأزمة أنها أحدثت شرخا عميقا في مستوى الثقة في النظام الرأسمالي، خاصة أنها أول ما ضربت أصابت الفرد والمجتمع الأمريكيين في الصميم، فلم يعد الفرد الأمريكي آمنا ولا المجتمع من نظام لطالما زعم أهله من ساسة ومفكرين أنه التعبير الأرقى عن الحلم الأمريكي الذي يجب تعميمه على كافة المجتمعات.
لكن بأية مشروعية يمكن الترويج لهذا الحلم؟ وما هي الضمانات التي تبرر استمراره وتحول دون انهياره؟ ببساطة المشكلة أن فردا، بالكاد يستطيع سد رمقه، تعرض للإغراء فاشترى بيتا بالأقساط المريحة، وبفعل الأنظمة المالية الربوية والخداع وجد نفسه، في فترة زمنية قصيرة جدا، عاجزا عن سداد الأقساط، وترتب على ذلك تدخل مؤسسة وراء مؤسسة بحجة إنقاذه، فإذا بالجميع يغرق ويعجز عن سداد الديون وفوائدها الباهظة حتى أن الفرد لم يعد يعرف كم يملك من البيت.. هذا إن كان يملك منه شيئا فعلا، ولأن هناك مستثمرين في الرهن العقاري من الدول الأخرى على مستوى الدول والبنوك والشركات والأفراد فقد نالت الأزمة الجميع، منذرة بخسارة المستثمرين لأموالهم وانهيار النظام الاقتصادي برمته.
بنقد الاشتراكية بقيت الرأسمالية
ثانيا:لذا فإن منبع الأزمة من ألفها إلى يائها هو الوحشية الرأسمالية التي تكاد تصل إلى قمتها القائمة أساسا على جنون التعاملات الربوية التي بمقدورها أن تحقق انتصارات لفئات محدودة وكوارث للغالبية الساحقة من الناس، وعليه فمن المهم ملاحظة أن الأزمة تفجرت أصلا في إطار الرأسمالية المالية وليس في الأشكال الأخرى من النظام الرأسمالي.
ومعلوم أن هذا الإطار غير منتج ولا يصنع اقتصادا آمنا أبدا، لكنه مغر ومريح في تحقيق أرباح طائلة دون أي جهد إنتاجي يذكر، فالذين تدخلوا بداية في الأزمة استندوا إلى أصول في تقديم القروض لطالبيها، لكن الذين تلوهم في التعاملات التجارية أخرجوا الأصول، فعليا، من حيز التداول ولو أنها قانونيا بدت قائمة، والطريف أن بعض المالكين قاموا بالتأمين على بيوتهم التي اشتروها، لكن مثل هؤلاء ألقوا بالخسارة الفادحة على شركات التأمين.
باختصار فالأزمة من وجه آخر أن عدة شركات تورطت في شراء نفس البيت بشكل ما، فانهارت قيمته بسبب عجز المالكين عن السداد وعجز الشركات عن سداد ديون بعضها، فلم يعد المتورطون كافة يمتلكون السيولة التي تمكنهم من البقاء في السوق.
ثالثا:لا ينكر أحد من الاقتصاديين أن الاشتراكية قدمت أعظم الخدمات للرأسمالية في نقدها لها وبيان عوراتها منذ وقت مبكر جدا، وبلسان كارل ماركس نفسه، لكن الرأسمالية التي استفادت من الفكر الماركسي وهو يدلها على أمراضها وعللها بما لا يقارن بأي فكر اقتصادي آخر كانت بخيلة إلى حد العدم في تقديم أية خدمة قد تساهم في الكشف عن عورات النظام الاشتراكي.
فصمدت الرأسمالية (إلى حين) وانهارت الاشتراكية، وتجلت نشوة الانتصار على المنظومة الشيوعية في حديث كبار المفكرين الأمريكيين عن الحلم الأمريكي القادم للبشرية وعن نهاية التاريخ والإنسان الأخير حتى بلغت حد العجرفة والعنصرية والتهديد في الخطاب الفكري والسياسي الأمريكي الذي بات يتحدث عن صدام الحضارات وينتج حروبا أكثر مما ينتج اقتصادا.
رابعا:لا ريب أن جوهر الأزمة، في ضوء القوانين التي أفرزتها، أثبتت أن منطق الرأسمالية المتوحش لا بد له من نهاية، وعليه فإن مقولة آدم سميث التي قام عليها الاقتصاد الليبرالي: "دعه يعمل.. دعه يمر" لم تعد قائمة ولم تعد ذات جدوى، وهذا يعني أن فكرة حيادية الدولة تجاه الاقتصاد الحر هي فكرة جنونية وعبثية، فلأول مرة تضطر الولايات المتحدة كدولة أن تتدخل لإنقاذ النظام الاقتصادي برمته وليس النظام المالي فحسب، ولا شك أن هذا التدخل سيهدم، وإلى الأبد، أهم ركن أساسي في النظام الاقتصادي الرأسمالي.
مجرد إنعاش كهربائي
خامسا:لأول مرة يجري الحديث ليس عن إصلاح الوضع ومعالجة الأزمة، بل عن الحاجة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر أمنا، كما صرح بذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، فقبل ذلك لم نسمع من المنظومة الرأسمالية أي انتقاد للنظام القادم بقدر ما ملّ الناس من أسطوانة الحلم.
والأكيد أن مثل هذه التصريحات والتقييمات أقرب إلى التعبير عن الفزع من النظام القائم وليس عن الأزمة فحسب، وبرغم التخبط في التصريحات الأوروبية فإن تحميل الولايات المتحدة وحدها مسئولية الأزمة كما ترى ألمانيا لن يعفيها من المسئولية ولن يحميها من التداعيات، ولعل الرئيس الفرنسي كان الأكثر صراحة حين قال إن انهيار بنك أوروبي كبير سيعني انهيار أوروبا ماليا رغم أنه طمأن مواطنيه، في تصريحات أخرى، بأن النظام المالي الفرنسي آمن، ولو أنه غير محصن كفاية!
ختاما.. فإن حقيقة تدخل الدولة في الأزمة الراهنة ينبغي ألا يخدع أحدا، فهو أشبه بصدمة إنعاش كهربائي لجسد على وشك الانهيار وليس الشفاء، والثابت أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا منذ العام 1997، دأب خبراء الاقتصاد، لعشرات الأسباب، على التنبؤ بانهيار حاسم للدولار الأمريكي أكثر من مرة، وكان ينبغي له أن يسقط، لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لجأت على الدوام إلى عملية ترقيع من شأنها تأجيل عملية الانهيار.
وابتداء من الأزمة الراهنة على الأقل، وفي أحسن الأحوال، فالولايات المتحدة لم تعد القوة الأعظم على الإطلاق، خاصة وهي تبدو أقرب إلى أن تلفظ أنفاسها، ومن الأحسن لها أن تفكر في كيفية المحافظة على وحدة الاتحاد بدلا من خوض الحروب وممارسة الغطرسة الدولية، فما حدث هو تدخل يمس ديون الرهن العقاري وليس حل المشكلة بحد ذاتها، بمعنى آخر هو تدخل استهدف تأجيل انفجار الاقتصاد العالمي، ولهذا انفجرت الخلافات القوية بين أعضاء الكونجرس خاصة من الحزب الجمهوري ذاته حول جدوى التدخل، ومع ذلك فلم يكن له من مفر إلا الموافقة على الخطة وإلا فالفوضى العالمية كان من الممكن أن تقع بين ليلة وضحاها.
لذا فالسؤال الآن لا يتركز على انهيار الاقتصاد الأمريكي، بل اللحظة التي سيقع فيها؟ وكيف يمكن مواجهة آثاره، خاصة على مواطني دول بائسة ليس لها في العير ولا في النفير؟! |