سُورَة هُود: مَكِّيَّة إِلَّا الْآيَات 114 - 17 - 12 فَمَدَنِيَّة، وَآيَاتهَا: 123 نَزَلَتْ بَعْد يُونُس
مَكِّيَّة فِي قَوْل الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَجَابِر، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة: إلا الآية الرابعة عشرة، وَهِيَ قَوْله -تعالى-: (وَأَقِمْ الصلاة طَرَفَيْ النَّهَار)، وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْر -رضي الله عنه-: يَا رَسُول اللَّه قَدْ شِبْت، قَالَ: ((شَيَّبَتْنِي هُود، وَالْوَاقِعَة، وَالْمُرْسلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ))، وفي حديث آخر رواه سفيان بن وكيع: قَالُوا يَا رَسُول اللَّه نَرَاك قَدْ شِبْت! قَالَ: ((شَيَّبَتْنِي هُود وَأَخَوَاتهَا)).
فَالْفَزَع يُورِث الشَّيْب، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَزَع يُذْهِل النَّفْس فَيُنَشِّف رُطُوبَة الْجَسَد، وَتَحْت كُلّ شَعْرَة مَنْبَع، وَمِنْهُ يَعْرَق، فَإِذَا اِنْتَشَفَ الْفَزَع رُطُوبَته يَبِسَتْ الْمَنَابِع، فَيَبِسَ الشَّعْر وَابْيَضَّ، كَمَا تَرَى الزَّرْع الأخْضَر بِسِقَائِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ سِقَاؤُهُ يَبِسَ فَابْيَضَّ.
وَإِنَّمَا يَبْيَضّ شَعْر الشَّيْخ؛ لِذَهَابِ رُطُوبَته، وَيُبْس جِلْده، فَالنَّفْس تَذْهَل بِوَعِيدِ اللَّه، وَأَهْوَال مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَر عَنْ اللَّه، فَتَذْبُل، وَيُنَشِّف مَاءَهَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ وَالْهَوْل الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَمِنْهُ تَشِيب.
وَقَالَ اللَّه -تعالى-: (يَوْمًا يَجْعَل الْوِلْدَان شِيبًا) [الْمُزَّمِّل: 17] فَإِنَّمَا شَابُوا مِنْ الْفَزَع، وَأَمَّا سُورَة: "هُود" وقد شيبت هودٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حل بالأمم من عَاجِل بَأْس اللَّه -تعالى-، فَأَهْل الْيَقِين إِذَا تَلَوْهَا تَرَاءَى عَلَى قُلُوبهمْ مِنْ مُلْكه وَسُلْطَانه قوة ُبطشه بِأَعْدَائِهِ، فَلَوْ مَاتُوا مِنْ الْفَزَع لَحَقَّ لَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّه -تبارك وتعالى- يَلْطُف بِهِمْ، وَأَمَّا أَخَوَاتهَا فَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ السُّوَر، مِثْل: الْحَاقَّة والْمَعَارِج والتَّكْوِير والْقَارِعَة، فَفِي تلاوة هَذِهِ السُّوَر مَا يَكْشِف لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ سُلْطَانه وَبَطْشه، فَتَذْهَل مِنْهُ النُّفُوس، وَتَشِيب مِنْهُ الرُّءُوس.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي شَيَّبَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ سُورَة "هُود" قَوْله في الآية الثانية عشرة منها: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت)، فهو أمر بالاستقامة والثبات على ذلك، ولا يصبر على الاستقامة إلا عظماء الرجال.
وانظر معي إلى الأسلوب التربوي الأول في هذه السورة، الذي نجده في الآية الأولى: التعظيم للقرآن، فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نزل به الروح الأمين بأمر الله -تعالى- على الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، قد أحكمت آياته كلّها، فلا خلل فيها ولا باطل، نظمت نظماً محكماً في اللوح المحفوظ، فلا تناقض فيها ولا خطأ، جمعت الأمر والنهي فأحكمت المطلوب، (ثم فُصّلت) بما فيها من الدلائل على وحدانية الله -تعالى- والنبوة والبعث وما إلى ذلك من الإيمانيات، وذكرت الوعد والوعيد والثواب والعقاب، فليكن القرآن عظيماً في قلوبنا، عظيماً في نفوسنا، عظيماً في أعمالنا، فنلتزمه فهماً وعملاً، فنعظم عند الله -تعالى- وعند الناس، كما كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم-.
أما الأسلوب الثاني: فهو التسلسل المنطقي، فالإحكام والترتيب والتنظيم أولاً، والتفصيل والتوضيح والبيان ثانياً...، ولا يكون العمل سليماً وناجحاً إلا بهذين الأمرين.
فما المطلوب بعد ذلك يا رب؟
إنه: 1- عبادة الله وحده، فهو الخالق البارئ المستحق للعبادة.
2- الإيمان بالحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، فهو البشير النذير.
3- استغفار الله والتوبة إليه، والعبودية له وحده.
4- الاعتقاد بيوم القيامة، والعمل للقاء الله -تعالى-، فلا بد منه (إلى الله مرجعكم).
فإذا تم هذا كان العيشُ الهانئ في الدنيا (يمتعْكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمّى)، والتكريم في الآخرة (ويُؤتِ كل ذي فضل فضله)، وإلا كان التهديد والوعيد بعذاب الآخرة الدائم (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)، وأسلوب الترغيب والترهيب واضح في تفاعل النفس الإنسانية الواعية مع الأمور، وهذا هو الأسلوب الثالث الذي يدق على الوتر الحساس في الإنسان، ويعيش معه في كل آن، فبعد الحياة حساب، فإما ثواب وإما عقاب، وما يلتزم الصراط السويّ إلا ذووا الألباب.
الإنكار والصلف والعتو سبيل الجاهلين الذي يظلمون أنفسهم أولاً وآخراً
1- إنهم ينكرون البعث ويسخرون منه ابتداءً (ولئن قلتَ إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)!
2- يتحدّون بكبرياء كل تهديد ووعيد وينكرون العذاب الذي ينتظرهم هازئين (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة، ليقولنّ ما يحبسه).
3- الإنسان سريع اليأس إن لم ينل بغيته، أو نزعت منه النعمة، والبعدُ عن الصبر مقتل يقع فيه الكثرة الكاثرة، فالإنسان خلق من عجل ولا بد من التحلي بالصبر وعمل الصالحات؛ كي يزداد المؤمن إيماناً، ويتجاوز ضعفه، وعلى رأس هذه السمات: اللجوء إلى الله والاتكال عليه (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إن ليؤوس كفور* ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور)، فتراه ينسى مشاقه، ويرفع رأسه خيلاء، وينسب الفضل لنفسه (لفرحٌ فخور)، وينسى الخالق المنعم، ويتجبر على أمثاله من البشر، وكأنه من طينة أخرى غير طينتهم (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).
إن الإنسان العاقل من يعرف قدر نفسه، ويأرز إلى الحق، ويقر به. وهذا هو التأمل الرابع الذي ينبغي أن نقف عند نتائجه وآثاره؛ وقوف المتأملين المتدبرين لنكون من المفلحين، إن هؤلاء الصابرين العاملين خيراً نماذجُ راقية من البشر، وجودهم نادر ندرة َالمعدن النفيس بين المعادن الأخرى.
أما التأمل الخامس فوقفة متأنية أمام الآية الكريمة (فلعلك تاركٌ بعضَ ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملَك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) ترينا أن الداعية يجد في سبيل دعوته الكثير من المتاعب، والكثير من السخرية والاستهزاء، والكثير من المثبطات، فهل تفتر همته ويتكاسل عن أدائها؟!، وهل يتنازل عن بعض ما فيها، ويتخفف منه لإرضاء أهل الأمزجة والأهواء؟!، وهل تضيق نفسه فيقول: لِمَ أتحمل هذا العبء، وأسير عكس التيار؟!.
عقبات كثيرة، ومعوقات عديدة، تعترض مسيرة الدعوة والدعاة، فما ينبغي لحامل الدعوة المؤمن بها أن يعتريه ضعف، أو تضيق نفسه بشرف حملها، والنفحِ عنها، وبذلِ ما يستطيع في سبيل الوصول إلى نجاحها...، عليه فقط أن يبذل جهده وأن يخلص نيته، فهو الأداة البشرية التي اختارها الله -تعالى-للتعامل مع أمثاله من الناس، أما الهداية وقلوب البشر فبيد الله يهديها إليه -سبحانه- إن شاء، ويضلها حين تستكبر وتجحد وتُعرض عن منهجـه القويـم (والله على كل شيء وكيل).
والتأمل السادس: يتجلى في نفسية الكفار الواحدة التي لا تتغير في الأزمنة والأمكنة، وإن تغيرت الأزمنة والأمكنة نفسها، إن أول الأنبياء نوح، وآخرهم محمد عليهم -الصلاة والسلام- يلقـَون من المشركين "سيمفونية واحدة" هي التكذيب بالأنبياء وما جاءوا به، فهذا الحبيب محمد -عليه الصلاة والسلام- يتهمه كفار العرب ومشركوهم أنه افترى القرآن الكريم، مع أن دعواهم ساقطة من أساسها. فهم قومه ولغته لغتهم، فلو كان القرآن تأليفه لاستطاعوا المجيء بمثله، ولكنهم لن يستطيعوا ذلك، ولن يستطيعوا المجيء بعشر سور مثله، ولا بسورة واحدة، وإن جهدوا، وإذا عجزوا عن ذلك فالقرآن إذاً من عند الله تعالى (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) نعم يا رب نحن بفضلك مسلمون، وهذا النبي الكريم نوح يلقى من قومه اتهاماً بأنه يفتري على الله هذا الدين (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء مما تجرمون)، وهذا الاتهام لأول الأنبياء وآخرهم يندرج تحته وصم الكفار للأنبياء جميعاً بهذه الفرية، وهذا هود -عليه السلام- الذي سميت السورة باسمه، يرد على الكفار بأنه ليس مفترياً، بل إنهم هم المفترون (... إن أنتم إلا مفترون)، وقوم صالح يعزفون اللحن التكفيريّ نفسه فيقولون: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) فهم بهذا يتهمونه بالافتراء، وهؤلاء قوم لوط لما دعاهم إلى العفة، والزواج الحلال من الفتيات الطاهرات، كشفوا جانب الفجور، وأظهروا المستور دون رادع من أخلاق، قالوا: (لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)، وتراهم يرفضون مع شعيب التعامل بالمال الحلال، ولا ينتهون عن تطفيف الكيل والميزان، ويهددونه بالقتل لولا رهطه الذين يمنعونه.
فإذا أطل التأمل السابع، وهو مقولة الأنبياء الواحدة على مر الدهور: الدعوة إلى الله وإفراده بالعبادة، والتوبة والإنابة إليه، وجدنا المقولة عند نوح -عليه السلام- (أن لا تعبدوا إلا الله إن أخاف عليكم عذاب يوم أليم)، ورأيناها نفسها عند هود -عليه السلام- (قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون)، وألفيناها نفسها عند صالح -عليه السلام- (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، وكذلك نجد المقولة نفسها عند شعيب -عليه السلام- (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره..).
كما أن الجميع يرددون الطلب إلى قومهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، فالله -تعالى- أمر محمداً عليه -الصلاة والسلام - في الآية الثالثة أن يذكر قومه بالاستغفار والتوبة (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه..)، وكذلك يقول النبي هود -عليه السلام- في الآية الثانية والخمسين، والنبي صالح -عليه السلام- في الآية الواحدة والستين، والنبي شعيب -عليه السلام- في الآية التسعين، ونتيجة الاستغفار والتوبة في الآية الثالثة الحياة الطيبة في الدنيا والفضل العميم في الآخرة، ونتيجته في الآية الثانية والخمسين الحياة الرغيدة والقوة العظيمة، ونتيجته في الآية الواحدة والستين التمكن في الأرض ورضاء الله -تعالى-، ونتيجته في قصة شعيب الخير، والنماء، والرحمة، والود، والأمان من العذاب.
ونجد مقولة الأنبياء واحدة في تطمين الناس أنهم لا يريدون منهم جزاء ولا شكوراً، وأنهم لا يبتغون من ذلك الكسب الدنيوي ولن يكلفوا الناس شيئاً، وهم ينتظرون الأجر العظيم من الله -تعالى-، فنوح -عليه السلام- يقول لهم في الآية التاسعة والعشرين: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاُ إن أجري إلا على الله..)، ويكرر هود -عليه السلام- المقولة ذاتها في الآية الواحدة والخمسين (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني..)، كما أن المشركين عرضوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- المال الكثير، والزعامة، والسيادة، والنساء، والطب، فأخبرهم أنه لا يريد منهم إلا أن يشهدوا لله بالوحدانية.
فإذا توقفنا عند التأمل الثامن: وهو مقارنة بين خاتمة المجرمين والمؤمنين، وجدنا الكافرين -والعياذ بالله- في النار:
1- ليس لهم أولياء يدفعون عنهم العقاب الأليم، بل إن العذاب يضاعف، فيزداد بلاؤهم.
2- خسروا أنفسهم في جهنم خالدين، فلم ينفعهم آلهتهم المزعومة.
3- قد يخسر الإنسان ماله فيعوضه، وقد يخسر أهله، فيجد غيرهم، لكنه إن خسر نفسه فقد خسر كل شيء.
أما المؤمنون الذين عملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم، وكانوا عباداً مرضيين فـ(أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، نسأل الله -تعالى- أن نكون منهم، فالفريق الأول: الكفار مثلهم كمثل الأعمى الأصم، والفريق الثاني: المؤمنون كالبصير السميع، وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء (.. هل يستويان مثلاً أفلا تَذَكّرون).
ونصل إلى التأمل التاسع: فنرى الكبر عند الكفار الذين يأنفون أن يؤمنوا بما آمن به الضعفاء من الناس (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي..)، ويطلبون إليه أن يطردهم، ولن يؤمنوا بالله الواحد، ولا نبوة نوح ولو طرد الضعفاء والفقراء، وهذا يذكرنا بالشيء نفسه الذي احتج به كفار قريش، وطلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرد البسطاء من ضعفاء المسلمين، فكان رد القرآن سريعاً وحاسماً في سورة الكهف (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)، فاحتفى بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالغ في إكرامهم، وكذلك فعل النبي نوح -عليه السلام- حين قال للملأ الكافرين من قومه: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم)، ثم أنحى على الكافرين باللائمة، ونعتهم بما يستحقون من توبيخ فقال: (ولكني أراكم قوماً تجهلون).
التأمل العاشر: القدوة الصالحة، فشعيب -عليه السلام- حين دعا قومه إلى إيفاء المكيال والميزان، وإعطاء الناس حقوقهم، والبعد عن أكل الباطل قال: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) فهو يأمر بالمعروف، ويبدأ بنفسه، وينهاهم عن المنكر، وينتهي عنه أولاً، وهكذا الداعية الصدوق، ورحم الله الشاعر القائل:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلاّ لنفسك كـان ذا التعليـم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فانت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة في كل شيء، ففي المعركة كان المقدّم، فقد روى الإمام علي -رضي الله عنه- قال: "كنا إذا حمي الوطيس، واحمرّت الحِدق؛ نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقربَ إلى العدو منه"، وحين نهى عن الربا، نهى عمه العباس أول الناس، وحين نهى عن الثأر في الدماء الجاهلية، بدأ بدم ابن عمه، وكان تلميذه النجيب عمر الفاروق -رضي الله عنه- حين يأمر أو ينهى يجمع أهل بيته فيأمرهم وينهاهم أولاً، ويلوّح بالعقوبة المضاعفة لهم إن خالفوا، ومن هنا نجد قوله -تعالى- في الآية الثانية عشرة بعد المائة أمراً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قدوتنا بالاستقامة (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغَوا إنه بما تعملون بصير)، فإذا استقام الرأس استقام ما بعده، وإن فسد الرأس فسد ما دونه، ولن يتبع أحد أحداً ولن يصدقه ما لم يره يبدأ بنفسه قبل الآخرين في كل شيء، وما لم يكن صادقاً في نفسه يتعهدها بالصلاح والتزكية قبل إصلاح الآخرين وتزكيتهم، ولن يثبت على الاستقامة إلا عظماء الرجال.