لا يشعر الناس أحياناً أنهم يعاينون لحظات تاريخية ستفرد لها الكتب والدراسات مستقبلاً صفحات كثيرة، ويتحدث الناس كمنعطفات كبيرة جداً في مسارات الشعوب والمجتمعات والدول في المنطقة والعالم كله، بما تتضمنه من انقلابات هائلة في توازنات القوى المحلية والإقليمية والدولية، والتغييرات غير المسبوقة التي حصلت في مدى زمني قصير، لها تأثيراتها في كل المناحي، ومنها تلك الناحية النفسية التي تهز مشاعرها آلاف الصور المعبرة التي صاحبت الثورات العربية، بما تحمله من فداء وتضحيات، وشجاعة وإقدام، من أطراف، وجبناً وخوراً وخسة وجرائم من أطراف أخرى، وفضائح تطال شخصيات كانت أسماؤها تتردد همساً بين الناس خشية أن تطالهم أيدي البطش، وقد كنا هذا الأسبوع على موعد مع صورة لها دلالاتها الكبيرة للرئيس المخلوع مبارك، وهو في قفص الاتهام؛ حيث أسمعته النيابة العامة في مرافعتها ما يكره، وما لم يكن تصوره أبداً قبل عام مضى.
سمع مبارك هذا الكلام وهو يغطي عينيه بـ"نظارة شمسية"، لكي يداري نظرة الذل في عينيه، استمع مكرهاً ـ هذه الكلمات من مرافعة تاريخية يقول في مستهلها المستشار مصطفى سليمان: "المتهم الأول فى تلك القضية، وهو مبارك، شاءت له الأقدار أن يحكم البلاد دون سعى منه، إلا أنه رفض ترك الحكم بإرادته وظل حتى نٌزع منه، أقسم برعاية مصالح الشعب، لكنه وضع مصالحه الشخصية أمام عينيه، وكذلك مصالح أسرته، هذا الرئيس السابق قام فى العقد الأخير بارتكاب جرائم كثيرة لم يرتكبها رئيس من قبله، وهى توريث الحكم، وفى سبيل ذلك قمع كل شخصية سياسية تقترب منه أو تحظى على حب الشعب، وأطاح بهم حتى يتحقق مشروع الثوريث، رغم أن الشعب أعطاه ثقته وعمراً طويلاً قرب على 30 عاما، وهى فترة كبيرة تبلغ نصف عمر الشيوخ، وكل عمر الشباب، لقد خذل مبارك الشعب من أجل مصالحه الشخصية التى غلَّبها على مصالح الدولة، عاند الزمن وقرر الاحتفاظ بالسلطة وبريقها حتى آخر يوم فى حياته حتى تخلص الشعب منه، لم يكتف بفترة واحدة وآثر الحكم، خضع لضغوط أسرته ليوافق على توريث الحكم، ورضخ لإرادتهم وإرادة قرينته التى أرادت أن تكون أما لرئيس بعد أن كانت زوجة رئيس، لم يدرك أن مصر ليست قطيعاً وأنها ليست عزبة أو تكية.
لم يدرك أن الشعب المصرى له حقوق عليه، لم يسمع صوت الشارع الذى يطالب بالعدالة الاجتماعية والحرية، بلغت إهانته للشعب حينما قام نظامه بتزوير الانتخابات البرلمانية، وتزوير إرادة الشعب، فحدث الانفجار وتعالت الأصوات المطالبة برحيله، فقد رزق المتهم بملك لم يحسن سياسته، وكل من لم يحسن الملك يخلعه، واستحق المتهم الأول انتهاء مشواره بالانكسار والذلة، من قصر الرئاسة إلى قفص الاتهام ثم أشد العقاب، قام المتهم الأول بتكريس الدولة ومؤسساتها لتوريث الحكم، وأحكم سيطرته والحزب الوطنى على المقاعد البرلمانية، وسيطر على السلطة التشريعية، بالإضافة إلى السلطة التنفيذية، وأبقى العديد من الوزراء السابقين والمسؤولين فى أماكنهم رغم فشلهم، وهو ما أدى إلى تفشى الفساد.. تبنى الرئيس السابق سياسات اقتصادية أدت إلى ارتفاع الأسعار، وعدم تناسبها مع دخل المواطن، مما أدى إلى زيادة معدل الفقر وزيادة الأغنياء ثراء، ونتيجة ذلك تعالت الاعتصامات العمالية، وتقهقر الاقتصاد المصرى بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى انحدار البلاد وانحصار دورها الإقليمى، وفقدها مكانتها التى كانت تتمتع بها".
إن مبارك كان يسمع بعضاً من هذه التهم في بعض منتديات المعارضة وصحفها، وكان يتجاهلها كأن لم يسمعها، لكنه اليوم يسمعها مكرهاً، وهو حبيس قفص، يشار إليه كإمعة في بيته تحركه زوجته، وتسيره لتنفيذ سيناريو التوريث.. فما أقسى أن يسمع ذلك زوج يفضحه الله في قعر بيته، ويهتك ستره، ويسمع العالم كله من حوله وهو معهم، أنه لم يكن كامل القوامة في منزله فضلاً عن أن يكون مؤهلاً لحكم بلد بحجم مصر..
وما أشد أن يسمع رجل دانت له كل سلطات مصر لثلاثين عاماً، وارتعدت فرائص ملايين حين يمضي موكبه في مدن مصر صوت النيابة يتهمه بكل ألوان الجرائم المشينة، من اللصوصية، إلى بيع البلاد، ورهن ثرواتها، وإذلال أهلها، وفشله الإداري والسياسي والاقتصادي...
إن في ذلك لعبرة، وما أعظمها من عبرة حين ينقل شهود الجلسات غير المتلفزة أثر كلمات النيابة عليه وعلى بقية المتهمين الذين وصفتهم النيابة بأنهم "ماتت قلوبهم عندما تعاملوا مع المتظاهرين السلميين"، عندما تطالب النيابة القصاص العادل من هؤلاء وتطلب من المحكمة أن يعلق هؤلاء الطغاة على أعواد المشانق..
لقد آن لكل مظلوم ومقهور ومضطهد أن يستشعر معية الله، وأن يؤمن بعدالة العلي القدير ذي الجلال والإكرام، المتفرد في عظمته، ذي الكبرياء والجلال وحده، وأن يدرك أن ما يراه من كبرياء مصطنع وعظمة متوهمة ليس إلا خيوط العنكبوت وخيالات أوهام..
13/2/1433 هـ |