|
1- لا شك أن اندحار الباطل نعمة عظيمة تستوجب الشكر كسائر النعم، وقد سجد بعض السلف شكراً لما بلغه موت الحجاج، وقد قال تعالى: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ونحن أشد ما نكون حاجة للزيادة لأن الطريق لا يزال طويلًا وشاقًا، والخطوات نحو استكمال الثورة لا تزال كثيرة وشائكة؛ فيجب استفراغ الجهد في الشكر باللسان والقلب والجوارح. أما الوقوع في الزهو والتعالي -سواء التعالي على عموم الناس أو تعالي بعضنا معشرَ الدعاة على بعضنا الآخر- والوقوف عند الإعجاب بالثورة –والتي لم نبدأها نحن وإنما بدأها غيرنا– فهو أمر لا تدوم معه نعمة ولا تستقر معه قوة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25].
2- ومن الأمور الهامة المطلوبة من العلماء والدعاة: التلاحم مع الشعب وتأييده في مطالبه التي تقرُّها الشريعة وإعانة جميع المظلومين في الحصول على حقوقهم.
ومما يتحقق به التلاحم المنشود حُسْن التعامل مع جمهور الناس؛ فذلك مما يقرِّبهم ويؤثر فيهم. أما الانقباض عنهم والجفاء فهما السبيل لانفضاض الناس عنا ولو كنا أتقى الناس، وقد قال الله تعالى لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. فلنقترب من الناس، ولنقترب للجادين من شباب الثورة ليزدادوا رفعة بتعلم الدين والالتزام بتعاليمه وينضموا لقافلة الدعاة إلى تحكيم شريعته، وحذار حذار من سوء التعامل مع الناس في هذا الوقت بالذات؛ فقد يعزوه بعض العامة لارتفاع الضغط الأمني وأن حُسْن الخلق معهم قبل الثورة كان خوفًا لا تدينًا.
ومن حسن التعامل إبداء الابتسامة والبشاشة والاحترام للكبير والصغير والعالم والعامي في غير موطن إقرار على فاحشة أو معصية أو استهزاء بالدين.
ومن التلاحم مع الشعب فضُّ النزاع بين المتنازعين، وحل مشاكل الناس، ومساعدة المحتاجين... إلى غير ذلك من الخدمات الاجتماعية التي كان النظام البائد يمنعنا منها خوفًا من ميل قلوب الناس لأهل الدين؛ حتى وصل الحال لاعتقال شباب الدعاة الذين يزورون دور الأيتام في الأعياد، أو الذين حاولوا تقديم خدمات إغاثية للمنكوبين في الزلزال.
ومن التلاحم مع الشعب الالتفاف بالنصح والعون حول من تظهر استقامتهم وجديتهم من المسؤولين الحكوميين قبل أن تؤثر فيهم بطانة السوء.
3- الانطلاق الدعوي في المساجد وغيرها: وقد كان ذلك مجرَّمًا في نظام الطاغوت المخلوع، وكم من معتقَل قد زجوا به في غياهب السجون لتحفيظه القرآن للشباب أو إنكاره بالحسنى على من سب الدين أو لقيامه بتعليم أحكام الإسلام للناس أو لذهابه مع بعض أحبابه وجيرانه في رحلة تربوية إلى غير ذلك من صور الطغيان في الصد عن سبيل الله. وقد صار كلُّ ذلك متاحًا الآن، فلا يليق بنا تضييع الفرصة أو التراخي في ذلك مهما كانت المشاغل الشرعية الأخرى؛ فالدعاة وطلبة العلم كثيرون -بفضل الله- ويمكنهم توزيع الأدوار في ما بينهم؛ فنرى دروس ومراكز العلوم الشرعية في كل مكان؛ حيث يتعايش أهل العلم مع طلبتهم ولا نكتفي بالفضائيات أو التعليم عن بعد، كما يجب النشاط في دعوة الأفراد وتربيتهم وتكثير المحاضن العلمية والتربوية، كما ينبغي أيضاً الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للخلق؛ لإشاعة السنة والطاعة ومحاصرة البدع والمعاصي، كل ذلك بالرفق ما أمكن والحكمة والموعظة الحسنة والبيان الواضح الذي يقيم الحجة ويزيل الشبهة. هذا كله بالإضافة لاستمرار التواصل مع الناس عبر الفضائيات والإذاعة والصحف ومواقع التأثير الاجتماعي وغيرها على شبكة (الإنترنت).
4- الترخيص الرسمي لكل ما نحتاج له لنصرة الدين والقيام بمصالح الناس من هيئات أو أنشطة أو صحف وقنوات، والمشاركة القوية في المجالس المحلية ومجلس الشعب -ووجوب تأييد المسلمين لأهل الدين المشاركين في ذلك بمنحهم أصواتهم طبقاً لفتاوى كبار أهل العلم الذين علَّموا الأمة منهج السلف كابن باز وابن عثيمين وغيرهما -رحم الله الجميع- تقليلًا للشر والمخالفات التشريعية دون مجاملات على حساب العقيدة، وكذلك النقابات واتحادات الطلاب والنوادي المهنية وغيرها من أماكن التأثير والتوجيه مما كان يمنعه النظام السابق عن أهل الدين إلا من شهد لهم جواسيس النظام بالاستعداد لمسايرة الظالمين. أما الآن فيمكن استثمار الفرصة في الترخيص لهيئات شرعية وجمعيات دعوية وخيرية وحقوقية، وكتاتيب لتحفيظ القرآن، ومراكز إسلامية متعددة الأنشطة، ومدارس خاصة، ودور نشر، ومعاهد علمية، وترخيصات خطابة، بل وتكوين أحزاب بشرطها الشرعي من عدم قول أو فعل الباطل ومن عدم التعصب أو عقد الولاء والبراء عليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب (أي تصير حزبًا)؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم؛ سواء كان على الحق والباطل. فهذا من التفرُّق الذي ذمه الله تعالى ورسوله" (مجموع الفتاوى: 11/92).
ولا يشغب على هذا قول البعض: إن الحزب السياسي يختلف عن هذا لاشتراط القانون عدم قيامه على أساس ديني! فإن ذلك غير مانع من استطاعتك وضع برنامج للحزب غير مخالف للشريعة؛ وذلك بعدم كتابة الألفاظ التي يرفضها قانون الأحزاب دون أن تكتب ما ترفضه الشريعة؛ فالفرق كبير بين عدم الكتابة وكتابة العدم؛ فعدم الكتابة حصل على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حين أمر الكاتب أن يمحو "بسم الله الرحمن الرحيم" ويكتب "باسمك اللهم" وحين محا "محمد رسول الله" وأمر عليًا أن يكتب "محمد بن عبد الله" لما اعترض المشركون على المكتوب أولًا. وأما كتابة العدم فهو مثل كتابة أن الله ليس برحمن ولا رحيم، تعالى الله عن ذلك، ومثل كتابة أن محمدًا ليس برسول الله، حاشا وكلا صلوات ربي وسلامه عليه. وأما الاعتراض بمنع كثير من الباحثين من تكوين أحزاب سياسية مطلقًا -إسلامية أو غير إسلامية– في ظل دولة الخلافة التي تحكم بكتاب الله وشريعته ووجود أهل الحل والعقد، فذلك ليس في محل النزاع بل المناط قد انعكس حيث إن كلامنا في أحزاب تعمل على نقل البلاد من العلمانية (التي يسمونها الآن في مصر (الدولة المدنية)) إلى حكم الشريعة، ومن حياة البعد عن الدين إلى الحياة بالدين (انظر: الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، رسالة دكتوراة للدكتور عطية عدلان.) ونختم هذه النقطة بالتنبيه للموسرين من المسلمين بضرورة دعمهم لجميع هذه المؤسسات قياماً بدورهم في نصرة الدين والتمكين له، واحتسابًا للأجر والثواب عند الله تعالى.
5- التجاوب السريع مع المعطيات الجديدة على الساحة، وهو ما يقتضي خطاباً جديداً يجيب عن أسئلة الحائرين ويزيل الشبهات التي تمارسها عصابات العَلمانية وفلول النظام الساقط وإعلامه الخبيث، ومن ثَمَّ فنحن بحاجة لتناول أمور عديدة في هذا الوقت، لنقول للناس: (هذا ديننا)، أذكر منها -على سبيل المثال:
• أن الدولة في الإسلام ليست (ثيوقراطية أو دينية بالمفهوم الغربي) حيث يؤلَّه الحاكم الذي هو رجل الدين، والذي يمثل بذاته المرجعية والمنهج فيحلل ويحرم بهواه كما يحلو له على النحو الـذي عليـه الأحبار والرهبان، وليست دولة مدنية لا يحكمها الدين؛ وإنما هي -تحديدًا- (دولة إسلامية) يحكمها شرع الله الذي يخضع له الحاكم والمحكوم معًا ويحاكَمَان إليه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]. فلا وجـود للدولـة الإسـلامية بغير تحكـيم شـريعة الله، ولا يصح إيمان ولا توحيد مع الصدود عن حكم الشريعة {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:61]. فلا خيار للمسلم أن يكون إسلاميًا أو ليبراليًا أو اشتراكيًا، وما كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي وغير إسلامي، بل كانوا يفهمون ويمتثلون جميعًا قول الحق جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب:36]. فقولوا لكل من يختارون نهجًا غير إسلامي: هل تريدون تحليل ما حرم الله؟ فإما أن يقولوا: نعم، فيعلنوا كفرهم وتنفضُّ عنهم الأمة، وإما أن يقولوا: نريد الإسلام وحكمه، فقد لزمتهم الحجة بتعريفهم بأحكامه، ونقول لهم: أنتم إذن إسلاميون مثلنا؛ فلماذا تتمسكون باسم ليبرالي أو اشتراكي؟
• أن الإسلام دين العدل ولا مجال فيه للتجاوز عن ظلم الحاكم للمحكوم أو ظلم الأقليات غير المسلمة؛ بل أمرنا الله بالبر والإقساط إليهم ما سالمونا وجعل لهم الحق في التحاكم إلى شريعتهم في أمورهم الخاصة إذا شاؤوا. وإن التاريخ الإسلامي سجل فصل القاضي بين أمير المؤمنين بشخصه وآحاد الرعية وأن الحكم ربما كان لصالح فرد في الرعية غير مسلم ضد أمير المؤمنين؛ لا لأن أمير المؤمنين كان ظالمًا وإنما لعدم وجود بينة عنده على دعواه ثم تظهر الحقيقة باعتراف المدعي وتبرئته أمير المؤمنين وإعلانه من ثَمَّ الدخول في الإسلام. بل لم ينتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم حماره من أعرابي حتى جاء من يدلي بشهادته أنه صلى الله عليه وسلم قد اشترى هذا الحمار من ذلك الأعرابي.
• أن الإسلام دين الخُلُق، حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (صحيح الجامع الصغير، (2833)). وهذه هي الحضارة الحقيقية وذلك عندما يسود المجتمعَ الأخلاقُ الرفيعة.
• أن الإسلام دين الإيجابية التي تقتضي إيصال النفع للناس وقضاء مصالحهم، والاجتهاد في العمل وإتقانه، ومن ثَمَّ فهو دين النهضة والحضارة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس» (المصدر نفسه، (3298).)، وقال: «خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح» (المصدر نفسه، (3283))، وقال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (المصدر نفسه، (1880).)، وقال: «ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده» (المصدر نفسه، (5546))، وحث على الاستمرار في العمل إلى آخر لحظة يعيشها الإنسان على الأرض معلمًا إيانا سعة مفهوم معنى العبادة التي يحصل بها الأجر والثواب، وأن طريق المؤمن إلى الله طريق واحد يعمل فيه عمل الدنيا وعمل الدين فقال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (صحيح الجامع، (1424)، والسلسلة الصحيحة)، وقال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا؛ ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقـدام، وإن سـوء الخلـق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (صحيح الجامع، (176)).
• أن الإسلام دين الوفاء وحفظ العهود. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34]. وفي حال ظهور علامات الريبة وبوادر الخيانة من العدو المعاهد وتصبح المصلحة في إنهاء العهد فلا بأس بذلك بشرط إعلامهم بإنهاء عهدهم قبل قصدهم بقتال حتى لا نقع في الغدر أو الخيانة ولو مع كافر، كما قال تعالى: {وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. وكان صلى الله عليه وسلم حين يبعث بالجيوش يوصيهم بقوله: «... ولا تغدروا..» ، وكان صلى الله عليه وسلم قد عقد جوارًا لبني عامر، فلما قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين منهم التزم صلى الله عليه وسلم بديتهما فجمعها وأداها لقومهما مع كونهم مشركين، وذلك للجوار الذي عقده لهم (سيرة ابن هشام: 3/143).
• أن الإسلام دين القصد والاعتدال: وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من يصوم ولا يفطر ومن يصلي فلا يرقد ومن امتنع من الزواج، فقال«: أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»، وقال «مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وقال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، وقال: «التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة» (صحيح الجامع، (3010)). والاقتصاد -كما قال المناوي رحمه الله-: التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط (فيض القدير: 3/277، حديث رقم (3389)). والسنة في هذا مبيِّنة للقرآن تارة ومؤكدة تارة؛ فالله -تعالى- يقول في كتابه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]. فالغلو في الدين بزعم الاستقامة طغيان منهيٌّ عنه كما في ظلال القرآن؛ وذلك أن المقصود بالطغيان هنا -كما في تفسير القرطبي- مجاوزة الحد، ولا يتصور ذلك في الاستقامة إلا على جهة الغلو، ومن ذلك التجبر على الكافر في قول بعض المفسـرين، وقد ذم القرآن المسرفين على الإطـلاق، فقـال تعـالى: {إنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. وأكد على التوسط فقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء:29]، وقـال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. إنَّ الْـمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26،27] ومن ثَمَّ فالاقتصاد والاعتدال في الإسلام فوق أنه منهج لرفض الإفراط أو الغلو في الدين كرفض التفريط أو التميع، فهو منهج لبناء اقتصاد قوي للأمة بالمحافظة على مقدراتها وثرواتها لكن بالتوازن مع كفاية الرعية بما يكفل لهم الحياة الكريمة.
• إعلاء الإسلام لقيمة الفرد: حتى أن الرجل من المسلمين كان يجير المشرك أو يؤمنه فيُمضِي رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره، وكان يقول: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم...» ، ومن إعلاء قيمة الفرد أنه صلى الله عليه وسلم أجلى يهود بني قينقاع عن بكرة أبيهم من أجل امرأة آذوها، وبايع الصحابة بيعة الرضوان من أجل رجل واحد، حتى قيل: إنه بايعهم على الموت حين بلغه أن مشركي مكة احتجزوا عثمان -رضي الله عنه- وقتلوه (سيرة ابن هشام: 3/262)، ويحكي لنا التاريخ كذلك أن الخليفة المعتصم سيَّر جيشًا عظيمًا إلى الروم من أجل امرأة قالت: (وامعتصماه)، وبمثل هذا المنهج يعيش كل فرد من الرعية كريمًا عزيزًا شاعرًا بحماية الدولة له وإعلائها لقيمته.
• إعلاء الإسلام لقيمة المرأة: حتى أن امرأة من المسلمين أجارت مشركًا فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»، وقال صلى الله عليه وسلم موصيًا بالنساء ومكرِّمًا لهن: «استوصوا بالنساء خيرًا» (الحديث في الصحيحين)، وقال أيضًا: «خيركم خيركم للنساء» (صحيح الجامع، (3316))، والحديث في هذا يطول.
• مراعاة الإسلام للواقع والظروف الاستثنائية: كحالات الضرورة والإكراه وما يوقع الناس في الحرج؛ فجعل لذلك أحكاماً تتضمن التيسير ورفع الحرج وإباحة المحظور عند الضرورة ورفع الإثم عن المكره، مع تفصيل في كل ذلك تذخر به كتب الفقه الإسلامي العظيمة وتراثه الضخم، بما يقطع الألسنة الخبيثة ولا يُبقي مجالاً لمتنطع يريد أن يشغب على المسلمين بأن هناك مسائل سيصطدم بها الفقه الإسلامي ولا يجد لها حلاً.
• حرص الإسلام على حُسْن المظهر والنظافة وصحة البدن: فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله جميل يحب الجمال»؛ وذلك لما خشي أحد الصحابة أن يكون حبُّه للنعل الحسن والثوب الحسن من الكبر، وكان لرسولنا صلى الله عليه وسلم حلة يتجمل بها للوفود وكان يحث المسلمين على اتخاذ ثوب خاص للجمعة وعلى التنظف للجمعة بالاغتسال، فضلاً عن الوضوء للصلوات وغسل اليد عند القيام من النوم قبل وضعها في الإناء، وتقليم الأظافر، وحلق شعر العانة والإبط، وإكرام شعر الرأس بتنظيفه وتسويته، فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان له شعر فليكرمه» كل ذلك دون غلو أو تشبه في شكل أو هيئة بالمشركين أو الفساق لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (صحيح الجامع، (6149)). كما كان صلى الله عليه وسلم يهتم بنظافة المساجد والدور بل بالطريق أيضاً فيأمر بإماطة الأذى عنه، وينهى عن قضاء الحاجة في طريق الناس أو ظلهم وعن التبول في الماء الراكد، وقد اشتد غضبه حين رأى نخامة بالمسجد... إلى غير ذلك من مظاهر الحرص على النظافة. كما أَوْلَى صلى الله عليه وسلم الصحة والبدن عناية خاصة فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مارس أنواعاً من الرياضة كالمسابقة في الجري والمصارعة، كما أرشد لما يحافظ به المرء على بدنه وصحته فقال: «ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه؛ فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنَفَس» (صحيح سنن ابن ماجة (2704)، والسلسلة الصحيحة، (2265))، وحث على التداوي من المرض فقال: «تداووا عباد الله؛ فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد، الهرم» (صحيح الجامع، (2930)).
• أن الإسلام دين الرحمة: الرحمة بالرعية، والرحمة بالخدم والعبيد، والرحمة بالأطفال، والرحمة بالبهيمة ولو كانت تساق للذبح، والرحمة بالحيوانات غير الفواسق التي أمر بقتلها، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن امرأة دخلت النار في هرة حبستها؛ فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. كما أخبرنا عن بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل غفر الله لها بسقيها الماء لكلب كان يلهث الثرى من شدة العطش. ويضيق المقام عن الاستطراد وسَوق النصوص الكثيرة في ذلك، وصدق الحق جل وعلا إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
مما سبق يتبين أمر هام يجب التأكيد عليه، وهو: أن الإسلام دين شامل للحياة، لم يدع جانبًا منها إلا غطاه بما يكفيه من الأحكام والآداب، وما ذكرت إلا غيضًا من فيض بقدر عدد الصفحات المتاحة للمقال في مجلتنا الغراء.
6- المحافظة على أهم مكتسبات الثورة، وهو تحرر الدعاة من هيمنة الأجهزة الأمنية وضرورة إدراك خطورة انفراد بعض من بيدهم السلطة في هذه الآونة من مدنيين أو عسكريين بكل فصيل من فصائل الحركة الإسلامية على حدة في مجالس خاصة قد تؤدي إلى فصل الإسلاميين عن الشارع والحالة الثورية من جهة، وكسب النظام المترنح والمرتبك لتأييدهم وتقويتهم له من جهة ثانية، وترويج التهم عنهم بالخيانة للثورة وعقد الصفقات مع النظام القائم للحصول على بعض المناصب على حساب استكمال الثورة من جهة ثالثة، وتفتيت كلمة الحركة الإسلامية ووحدتها من جهة رابعة، ثم يصبح كل فصيل بعد ذلك أسيرًا للنظام متهربًا من إخوانه، ثم يؤول الأمر في نهاية المطاف بعد استقواء النظام واستقراره للتضييق على كل هذه الفصائل وإقصائها عن دائرة التأثير واتخاذ القرار وأخيرًا البطش بهم والعودة إلى قهرهم في ظل الضعف والتشرذم الذي أرادوه لأنفسهم.
ولذلك فالواجب على من دعي لمثل هذه المجالس أو اللقاءات الخاصة أن يرجع لإخوانه ويكون للحركة الإسلامية قرار موحد وترتيب متفق عليه لما ينبغي أن يقال وما ينبغي أن يرفض وما يمكن أن يقبل في هذه اللقاءات، مع رفض الاستسرار بها عن سائر الشعب.
وليس عيبًا بالمشايخ ورموز الدعوة الإسلامية أن يستفيدوا من المتخصصين الأمناء في قراءة المشهد السياسي، بل حكم الشريعة يقضي على المجتهدين بالرجوع لمستشارين في التخصصات المختلفة المتعلقة بالنازلة؛ فهم فيها أهل الذكر. وعلى كل عالم أو داعية الحذر من الخطاب الارتجالي أو الانفعالي في هذه المرحلة، ومن الأحادية في الرأي التي يتبنى فيها كل شيخ ما ظهر له من آراء دون اعتداد بالرجوع لأصحاب التخصص ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية والنبهاء المخلصين الذين عاشوا على الأرض وخبروا مختلف الفئات عن قرب وأحاطوا علماً بخبايا رجالات النظام وعلاقاتهم المختلفة، بل يجب تفعيل طريقة التفكير الجماعية والتشاور مع كل هؤلاء؛ فنوازل ما بعد الثورة مسألة إدراك واقع بمؤثراته المختلفة قبل أن تكون مسألة إلمام بالأحكام الفقهية يستأثر بها حملة الشريعة، وإذا نجحنا في ذلك فستصبح حركة المشايخ في التجاوب مع الأحداث سريعة وقوية؛ بحيث يكونون في المقدمة والشباب وراءهم وليس العكس.
ولذلك لا بد من دراسة الواقع الحالي وحُسْن فهمه وكيفية التعامل الأمثل معه دون خلط بين سلامة المنهج ومنهج السلامة، ومعرفة ماذا حققت هذه الثورة وأين مواقع أقدامها الآن، ومن أعداؤها، ومن يحاولون استغلالها لصالحهم، والدراسة الواعية للأطراف الموجودة في حلبة الصراع في الداخل والخارج، وما هي الخطوات اللازمة لإفشال (السيناريو) الأمريكي المتكرر في إجهاض الثورات من خلال تنصيب أحد عملائهم؛ سواء أكان عسكريًا أو مدنيًا.
بل ينبغي أيضًا من خلال دراسة الواقع على النحو السالف الوقوف على الفتاوى أو التوجهات التي ينبغي للعلماء والدعاة البت فيها في مرحلة لاحقة كبناء قوة اقتصادية ضاغطة ذات ثقل لصالح الحركة الإسلامية، وتحديد مدى جواز انخراط الشباب المتدين من عدمه في صفوف الجيش والشرطة... إلى غير ذلك مما تدعو نتائج دراسة الواقع إلى تناوله.
ومما ينبغي أيضاً أن نخرج به من هذه الدراسة: تحديد سلم الأولويات لقضايا المرحلة القادمة على المستوى السياسي والإعلامي والاجتماعي مع الأخذ في الاعتبار في حال ضلوع (الإسلاميين) في التأثير أو الظهور في مؤسسات الحكم أن قبول الشعب لهم ولكل ما يريدون تقريره من أمور الدين والشريعة في البلاد سيكون ميسوراً إذا نجحوا في إشعار الناس بالأمن، وتوفير المعيشة الكريمة لهم بما في ذلك رفع الأجور وتوفير الوظائف، وتقديم الخدمات الطبية اللائقة بكرامة الإنسان مجانًا ودون تراخٍ، ومن ثَمَّ فلا غنى عن سياسة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في الانتظار والتأني قبل إخراج الـمُرَّة للناس حتى تأتي الحلوة فيخرجها معها، ولا بد أيضًا من التدرج وعدم حمل الناس على الحق جملة فيدمغوه جملة كما قال -رحمه الله؛ بل يكفيه أن يقيم في كل يوم سُنة أو يميت بدعة حتى يستقيم الناس على الجادة.
7- وختامًا فلا بد من لجان التنسيق والتواصل بين فصائل الحركة الإسلامية، ومد جسور التعاون والتفاهم بينها، ليكون لنا ثقل ومواقف قوية موحدة، ونعمل على إذابة الاجتهادات الفردية من خلال هذا التواصل ومنع التعارضات، وهو ما يحقق لنا الاستمرار في قطف ثمار هذه الثورة، بل ويحقق لنا قوة ووجاهة كأصحاب موقف واحد وكيان اعتباري واحد في التواصل أيضًا مع التيارات الوطنية المختلفة التي أصبحت جزءًا من الساحة السياسية والتمكن من التأثير عليها والتنسيق في اتخاذ المواقف الموحدة الجالبة للمصالح والمانعة للظالمين من ظلمهم والمحبطة للمؤامرات الدولية وخطط العملاء. وفي ما يتعلق بمن دخلوا مجلس الشعب فلا بد من تحرُّكهم كتلة واحدة، ولا يصح بحال أن يتحركوا كتلًا مختلفة؛ فلا بد من الشعور بالمسؤولية والعمل على تجاوز هذا التحدي الكبير.
ثم في خطوة لاحقة قد نتمكن بالسعي الجاد المخلص من تطوير التواصل ولجان التنسيق إلى هيئة جماعية قوية أو تقوية إحدى الهيئات الموجودة لتكون كذلك ولا تكون أقرب للشرفية، وينبغي أن تضم نخبة متميزة من كافة فصائل أهل السنة -الذين لم يسيروا في ركاب الحكام الذين لا يحكمون بشرع الله- والذين يتميزون بكونهم من أهل العلم الشرعي، أو من أصحاب النشاط الدعوي، أو من أهل الخبرة والفهم للواقع، ويزداد أفراد هذه الهيئة وتخصصاتهم وأوجه تأثيرهم شيئًا فشيئًا بالتوازي مع حصول التآلف واستقرار التنسيق بينهم حتى تصبح كيانًا قائدًا للأمة ذا طابع مؤسسي يكون بمثابة أهل الحل والعقد في المجتمع.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
27/01/33 د.هشام عبد القادر عقدة
العدد: 294
البيان | 
