سيرة خليل الرحمن محمد عليه أفضل الصلاة والسلام
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة .. ويتصل نسبه إلى عدنان ولد إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل بمكة، وكانت ولادته يوم الاثنين، وطلبوا له مرضعاً، فأرضعته حليمة السعدية، وظهرت بعض الآيات والبركات خلال مدة مكثه في بني سعد .
وقد سأل أبو أمامة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: (دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام) ( ) .
أما والده عبد الله فقد توفي وآمنة بنت وهب حامل به صلىالله عليه وسلم، وتوفيت أمه وهو لم يستكمل ست سنين بالأبواء وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً وكفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً . ولما توفي عبد المطلب، تولى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يرق عليه رقة شديدة،وكان يقدمه على أولاده .
ولما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، ولما رآه بحيرى الراهب، أشار على أبي طالب بأن لا يقدم به الشام خوفاً عليه من اليهود، فأمر أبو طالب بعض غلمانه أن يعود به إلى مكة .
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وبلغ خديجة صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأمانته وكرم أخلاقه، عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الشام يتاجر بمالها، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافقه غلامها ميسرة، ولما رجع من تجارته تلك ، عرضت خديجة بنت خويلد نفسها عليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وعمرها إذ ذاك أربعون سنة ، وانجبت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاسم، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهن .
ولقد حُبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التحنث في غار حراء فكان يتزود، ثم يخلو بنفسه في غار حراء أياماً . وقد سبق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمات منها : الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومنها: سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ( ) .
وبدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعٌ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ( ).
وبعد أن أوحى الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وكانت بها نبوته، أرسله الله بـ : { يا أيها المدثر ، قم فأنذر } فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، ونبذ الأصنام، فبدأ بدعوة قومه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي) قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا . فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} ( ) .
ثم دعا أهل مكة، فكان أول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق، ومن النساء خديجة بنت خويلد، ومن العبيد بلال بن رباح . وآمن به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر من ذلك . فمن كانت له منعة لم ينله أذى، ومن لم تكن له منعة عُذب، ومنهم بلال وآل ياسر، وهم عمار بن ياسر وأمه سمية وأبوه ياسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويثبتهم ويقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة . وعذب بلال بن رباح حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً.
وضيق على المسلمين في مكة حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة . ثم عادوا لأخبار وصلتهم أن قريشاً كفت أذاها عن محمد وأصحابه، ولما وصلوا مكة لم يزل البلاء يشتد على المسلمين حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة . وحاولت قريش إرجاع من هاجر إلى الحبشة عبر وفد قدَّم كثيراً من الهدايا للنجاشي ملك الحبشة، ولكن رد الله كيد الكافرين، وأبى النجاشي تسليمهم لقريش.
وحاولت قريش مع أبي طالب أن يكف عنهم محمداً فلا يسفه آلهتهم، أو يخلي بينه وبينهم، فأبى عليهم ، ودعا أبو طالب أقاربه لنصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهــم حتى أوسد في التراب دفينـا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقرّ بذاك منك عيونـا
ودعوتني، وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينـا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنـه من خير أديان البرية دينــا
لولا الملامة أو حذار مسبـــة لوجدتني سمحاً بذلك مبينــا
ثم اشتد أذى قريش، وضربت على بني هاشم وبني المطلب والمسلمين الحصار في الشعب، وتعاهدت قريش على أن لا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يناكحوهم،ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبثوا على ذلك مدة ثلاث سنين، نال فيها المسلمين ومن دخل الشعب معهم من الأذى والجوع والعطش ما الله به عليم . ثم تعاقد هشام بن عمرومن بني عامر، وزهير بن أبي أمية، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي- على نقض الصحيفة، فاجتمعوا عند الكعبة، وتبرؤوا إلى الله من أمر هذه الصحيفة الجائرة، وطلبوا نقض الصيحفة فكانت الأرض قد أكلت كل اسم لله فيها، وأبقت ما فيها من ظلم وغدر . وانتهت بذلك محنة الشعب، بعد حصار دام ثلاث سنين .
وبعد الخروج من الشعب بستة أشهر مات أبو طالب، ولم يُكتب له الإسلام، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حزناً شديداً، فمات من كان يحوطه ويحميه بعد الله، وماتت زوجه خديجة التي كانت تثبته وتعينه .
وازداد أذى قريش للمسلمين، وازداد المسلمون صلابة في دينهم لما رأوا من الآيات الكونية والقرآنية على صدق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وكان كفار مكة يرسلون إلى اليهود يسألونهم عن مسائل يحاجون بها محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف، وكان القرآن ينزل ويرد عليهم حججهم وباطلهم، ويخبرهم بأمور لا يعلمها أهل الكتاب . وحاولوا إغراء محمد صلى الله عليه وسلم بالمال، أو الجاه، أو تنصيبهم ملكاً عليهم، أو تزويجه أجمل نساء قريش؛ ولكنه أعرض عنهم ليبلغ رسالة ربه .
ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، واتهموه بالجنون والسحر والكهانة، ورموه بالكذب، مع أنهم هم الذين سموه بالصادق الأمين ! . وآذوه حتى وهو يتعبد لربه عند الكعبة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً عند الكعبة وكفار مكة ينظرون إليه، ثم تشاورا أيهم يأخذ سلا الجزور ويضعه على ظهره، فانتدب لذلك عقبة بن أبي معيط وكان أشقاهم، فوضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم، فجاءت فاطمة بنت محمد وأزالت سلا الجزور عنه وهي تسبهم .
ثم تعرض له الوليد بن المغيرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فأعجب به، وقال فيه قولاً حسناً؛ فقال: فوا الله ما هو بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، ثم خشيت قريش من ذلك، فما زال أبو جهل يكلمه حتى نكص على عقبيه وقال إنه هو إلا سحر يؤثر . قال تعالى: { إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر }.
ولم يزل العناد والتكذيب يلازم كفار مكة، حتى إنهم طلبوا من رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يريهم آية عظيمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يريهم آية، فأراهم الله القمر وقد صار فلقتين ، كل فلقة في جهة، ولما رأى ذلك أهل مكة قالوا: سحرنا محمد . ولكن كذبهم كل من أتى قادماً إلى مكة فإنهم أخبروا برؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا بل عاندوا واستكبروا .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة ربهم، فأقام بينهم عشرة أيام يدعو أشرافهم، فأخرجوه من الطائف، وأغروا السفهاء والصبيان برجمه بالحجارة، وبأقذع الكلام، فأدميت قدماه صلى الله عليه وسلم ، وانطلق هائماً فقال الدعاء المشهور : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعو ذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولاحول ولا قوة إلا بالله ) . فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، وأخبره أن شاء أطبق على أهل مكة الجبلان اللذين يحيطان بها فعل، ولكن الرسول الرؤف الرحيم بأمته، قال : ( بل استأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) .
وقبل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بسنة، أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء السابعة . قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }. فأتاه جبريل في مكة بدابة يقال لها البراق، وركبها النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى بيت المقدس، وصلى فيه إماماً بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء السابعة، ورأى في كل سماء بعض الأنبياء؛ فرأى آدم وعيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم . ثم لما بلغ سدرة المنتهى، أوحى الله إليه وكلمه ، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة يؤدونها كل يوم، ثم ما زال موسى بمحمد صلى الله عليه وسلم يسأله أن يراجع ربه في تخفيف الصلاة لأن أمته لا تطيق ذلك، حتى استقرت على خمس صلوات بالفعل، وخمسين صلاة بالأجر فضلاً من الله . ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في تلك الليلة وأخبر أهلها بالخبر، كذبوه وتهكموا به، وطاروا بتلك الحادثة كل مطار، وذهبوا سريعاً إلى أبي بكر ليخبروه خبر صاحبه، فلما كلموه في خبره، قال أبو بكر: إن كان قاله فقد صدق . فسمي أبو بكر بعدئذ بالصديق . ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بصفة بيت المقدس، ورسول الله لم ير بيت المقدس بعد، فجلى الله له بيت المقدس كأنه يراه، فأخذ ينعت لهم بيت المقدس فأعجزهم ورد الله كيد الفجار.
وفي المواسم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، وكانت قريش تحذر القبائل من اتباعه، وتقول إنه مجنون وإنه ساحر وإنه سفيه، حتى ينصرفوا عنه، فقُدر لنفر من الخزرج أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو أمامة أسعد بن زرارة . فسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وقرأ عليهم القرآن، فأعجبوا بكلامه، وقد كانوا سمعوا اليهود يتحدثون عن خروج نبي في هذا الزمان، فآمنوا به ووعدوه أن يدعوا قومهم لعل الله يجمعهم به .
وعاد القوم إلى ديارهم وفشا فيهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن من آمن منهم، وفي العام المقبل –وفي الموسم- قدم اثنا عشر رجلاً من الأنصار وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه بالعقبة وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه يعلمهم دينهم ويفقهم فيه، فكثر الإسلام في يثرب جداً .
وفي الحج خرج كثير من الأنصار وعدتهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوه أوسط أيام التشريق عند العقبة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ بيده البراء بن معرور وقال: نعم فو الذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى طيبة، وكان ينتظر الإذن من ربه بالهجرة، ولما رأى كفار مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت له منعة في يثرب ، أرادوا منعه من الخروج، واجتمعوا وتشاوروا في أمره ، وخرج عليهم إبليس في هيئة رجل من أهل نجد وأشار عليهم بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً جلداً ثم يقتلوه قتلة رجل واحد، فعندئذ يتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعاً ويرضون بالدية؛ فأعجبوا برأيه وقوله، فاجتمعوا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وأوحى الله إلى نبيه بأمرهم، وأمر علياً بأن يرقد على فراشه ولن يمسه سوء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } إلى قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون }، فأُلقي عليهم ووضع رسول الله صلى التراب على رؤوسهم وهم لا يشعرون ثم انصرف عنهم مهاجراً، ولما أفاقوا وأبصروا ما ألقي عليهم طلبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في فراشه، فلم يجدوه ووجدوا علياً مكانه، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر. -وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أبو بكر الصديق، وتلك منة من الله، وفضيلة لأبي بكر أن اختصه الله من بين سائر المؤمنين في أن يكون له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره إلى المدينة . واستأجرا رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط، هادياً يدلهم الطريق .
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاصدين غار ثور، أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما الأخبار، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم، ويريح الغنم عليهما ويأتيهما في المساء باللبن ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار فإذا خرج من عندهما، عمد عامر بن فهيرة، وساق الغنم لكي تعفي أثره . وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهم بالطعام في المساء، فمكثا في غار ثور ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن أريقط حسب الموعد المتفق عليه بدابتين، وسلك بهم طريق الساحل. وجعلت قريش جائزة كبيرة لمن يأتي بهما أحياء أو أمواتاً، ونفر الناس للبحث عنهم، وخرج سراقة بن مالك يطلبهما، فأدركهما ولكن الله لم يمكنه من الوصول إليهما، فكلما أراد أن يصل إليهما ساخت فرسه في الرمل، وذلك ثلاث مرات، حتى طلب الأمان، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه محفوظ من الله وأن الله ناصره، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة فكتب له ذلك، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي عن قريش خبرهما، فعاد إلى قومه ولم يسأله أحدٌ عن جهته التي أتى منها إلا قال كفيتم هذا الوجه .
ولما أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية استقبله الناس بفرح بالغ، وكلٌ يريد ضياقة رسول الله صلىالله عليه وسلم ، فبركت ناقته عند بني عمرو بن عوف فأقام عندهم بضع عشرة ليلة، ثم سار بناقته حتى بركت مكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر ببناء المسجد هنالك .
ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ووادع اليهود الذين كانوا بالمدينة .
وبعد سبعة أشهر من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أرسل سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب وفيها ثلاثون رجلاً، لاعتراض عير لقريش وكان فيها أبو جهل، ولكن حجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يحصل بينهم قتال . ثم توالت السرايا والغزوات للقبائل والقرى المحيطة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي السنة الثانية من الهجرة حولت القبلة إلى البيت الحرام بمكة، وفرض صوم شهر رمضان، وفي تلك السنة وقعت موقعة بدر الكبرى، وهي الواقعة الأولى بين معسكر الإيمان ومعسكر الشيطان، فنصر الله أولياءه وأذل أعداءه ( ) .
وفي سنة ثلاث من الهجرة توالت الغزوات، وكان فيها غزوة أحد وهي ثاني المعارك مع كفار مكة، وفيها قتل كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الكريم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم .
-وفي سنة أربع من الهجرة كانت غزوة الرجيع، وسرية بئر معونة وغزوة بني النضير، وغزوة ذات الرقاع .
وفي سنة خمس للهجرة المباركة، وقعت غزوة دومة الجندل، ثم غزوة والأحزاب أو الخندق، وهي ثالث المعارك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزبه، وبين كفار قريش وأحزابهم التي تجمعت للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكن الله رد كيد الكافرين، وأرسل عليهم الريح التي قلبت قدورهم، وخيامهم، وأزعجتهم، حتى ردوا على أعقابهم خائبين ، وفي غزوة الأحزاب نقضت بنو قريظة العهد، ولما انصرف المشركون خائبين تفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، فحاصرهم وأنزلهم من حصونهم وأخرجهم منها أذله صاغرين .
وفي سنة ست من الهجرة الشريفة : كانت غزوة ذي قَرَد، وغزوة بني المصطلق، وغزوة الحديبية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زيارة البيت وأصحابه، ولكن قريش منعته من ذلك، وعقدت معه صلحاً، وكان فيه فرجٌ للمسلمين بعد ذلك .
وفي سنة سبع من الهجرة: حدثت غزوة خيبر، وفتح الله خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وغنموا مالا كثيراً وأرضاً شاسعة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين .وسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة سرايا كثيرة لإقامة دين الله في الأرض . وفي ذي القعدة من سنة سبع للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابة قاصداً زيارة البيت العتيق، وأداء العمرة التي صده المشركون عنها في عام ست من الهجرة، فدخل مكة واعتمر، وأقام بها ثلاث ليال، ثم سأله أشراف مكة أن يخرج بعد انقضاء الثلاث؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقد الذي كان بينه وبين قريش .
وفي سنة ثمان للهجرة، وقعت غزوة مؤتة في أرض البلقاء من الشام وقوام جيش المسلمين ثلاثة الآف مقاتل، واستشهد فيها الأمراء الثلاثة، وهم من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، واستشهد غيرهم ، رضي الله عنهم أجمعين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل البعوث والرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإيمان بالله، فأرسل إلى ملك كسرى، وملك قيصر، والنجاشي، وغيرهم .
ثم وقعت غزوة ذات السلاسل ، وكان أميرهم عمرو بن العاص، ثم طلب المدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمده بجمع من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعليهم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولم يلقوا قوة تذكر فساحوا في بلاد بلي وبلقين وعذرة، غير أن قوة ناوشتهم فقهروها .
وفي سنة ثمان للهجرة المباركة، وقعت غزوة الفتح الأعظم، وسبب ذلك أن قريشاً نكثت العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلىالله عليه وسلم في صلح الحديبية. حيث أعانت قريش بالكراع والسلاح بني بكر على قتال بني خزاعة التي حالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني خزاعة، وجهز جيشه العظيم، وسأل الله أن يعمي عن قريش خبره حتى يبغتهم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم فيهم المهاجرون والأنصار والقبائل التي دخلت في طوع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو سفيان ورأى ما هاله من أمر المسلمين، وشهد شهادة الحق فأسلم، فقال العباس: يارسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فجاء أبو سفيان إلى أهل مكة يصيح بهم قد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد .
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة على ناقته وقد أحنى رأسه تواضعاًً لله أن منّ عليه بفتح مكة. ولم يلق المسلمين مقاومة تذكر إلا في موضع يقال له الخندمة، فقتل من المسلمين من جيش خالد نحواً من ثلاثة ، وقتل من المشركين نحواً من اثني عشر رجلاً، ثم فروا هاربين .
وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم جماعة كانوا قد آذوه كثيراً وهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فغضب على من معه فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن خطل متعلق بأستار الكعبة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله . وأهدر –أيضاً- دم عبد الله بن أبي السرح كان قد اسلم وكتب الوحي ثم ارتد، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء به ليستأمنه، فأمنه الرسول صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم عكرمة بن أبي جهل، فهرب وركب البحر ثم هاجت الريح بهم، وأيقنوا بالهلاك، فقال عكرمة: اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم، وكذلك صفوان بن أمية . وأُهدر دم قينتان لعبد الله بن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأهدر دم مقيس بن صبابة، وهذا أدركه الناس في السوق وقتلوه .
وخطب في أهل مكة وقال لهم: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالو خيراً أخ كريم وابن أخ كريم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء .
-ثم طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبيده قوس، وجعل يمر على الأصنام ويطعنها ويقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}. وأمر بمفاتيح الكعبة أن تؤتى: ودخلها ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن أبي طلحة من الحجبة . وصلى ركعتين في الكعبة . ثم خرج وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة ويؤذن .
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يلي الفتح خطبة بليغة، حرم فيها الدماء والأموال والأعراض، وحرم في مكة القتال والصيد وقطع الشجر. وأشهدهم على البلاغ . وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بضعة عشر يوماً .
وفي شوال سنة ثمان للهجرة، جمعت هوازن لحرب رسول الله صلىالله عليه وسلم، وكان معهم ثقيف، وبعض القبائل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاقاتهم، وكان عدد المسلمين كثير جداً، وظنوا أنهم لن يغلبوا من قلة، ولما دارت رحى الحرب، باغت المشركون المسلمين ، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، فتفرق صف المسلمين ، وهرب من هرب، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى جهة العدو وهو يقول : أنا النبي لا كذب **** أنا ابن عبد المطلب .
ثم أمر العباس وكان جهوري الصوت أن ينادي أصحاب السمرة ، فناداهم، فلما سمعوا صوته، انعطفوا جميعاً كعطفة البقر علىأولادها، فلبوا مسرعين، ودارت رحى الحرب، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ( هذا حين حمى الوطيس ) . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار وقال : ( انهزموا ورب محمد ) . فما خلى الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً . فانهزموا وغنم المسلمين منهم خيراً كثيراً . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، وبالغ في إعطاء المؤلفة قلوبهم . ثم كانت غزوة أوطاس، وسببها أن من فر من المشركين من هوازن لجؤوا إلى الطائف وتحصنوا بها ، ثم حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتل ناساً من أصحابه بالنبل، ثم تراجع إلى موقع بني فيه مسجداً، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين ليلة، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال نوفل بن معاوية الدثلي: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفك الحصار عن الطائف.
ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة، ثم اعتمر من الجعرانة، وعاد بعد ذلك إلى المدينة النبوية طيبة طيبها الله .
وفي سنة تسع للهجرة المباركة، عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم، فأمر بالتجهز لتلك الغزوة، وكان بالمسلمين شدة، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في سبيل الله، وأظهر عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق مثلها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، في وقت صيف وحر شديد. وفي تبوك أتاه صاحب أيلة وصالحه وأعطاه الجزية، فأقام رسول الله صلىالله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم قفل راجعاً إلى المدينة، وفي طريق العودة صعد النبي صلى الله عليه وسلم طريق العقبة، وكان طريقاً وعراً، وكان عمار آخذاً بزمامها، وحذيفة يسوقها، وحاول جماعة من المنافقين وعدتهم اثنا عشر وقد تلثموا، أن يلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق العقبة، ولكن الله أخبر نيبه بأمرهم، ولما أقبلوا، صرخ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليهم حذيفة وبيده محجن يضرب به وجوه رواحلهم، وعرفوا أن أمرهم قد ظهر، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بأسمائهم، وقيل له ألا تقتلهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا ، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل لقومه ).
ولما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وكان قد واعد جماعة من أهل المدينة على أن يصلي بمسجد بنوه قريباً من مسجد قباء عند عودته من تبوك، ولكن الله أخبر نبيه بما اضمروه في أنفسهم من الكفر والإلحاد والشقاق لما بنوا هذا المسجد؛ ولما عاد أمر أصحابه بتحريق هذا المسجد، وهو مسجد الضرار، قال تعالى :{ والذين اتخذوا مسجداً ضرارا وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبداً… الآية } .
وفي سنة تسع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يحج بالناس، وأن يعلن أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته . ثم نزلت صدر سورة براءة فأرسل بها علي بن أبي طالب ليتلوها على الناس.
واستمرت وفود القبائل تتتابع على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي سنة عشر من الهجرة المباركة الشريفة، حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وسميت بحجة الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعهم فيها، فتتابع الناس من كل فج للحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلم مناسك الحج منه، فحج قارناً، وأمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يتحلل بعمرة وفعلوا ( ) .
وفي سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، حدث الأمر الجلل،وهو وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لوفاته مقدمات، منها: قوله في حجة الوداع: ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، ومنها: أنه في آخر رمضان عارضه جبريل القرآن مرتين، ومنها: أنه اعتكف في آخر شهر رمضان صامه عشرين يوماً. ففي أواخر شهر صفر ابتدئ الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أمر أبابكر أن يصلي بالناس، وجهز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد لقتال الفاجر مسيلمة الكذاب، ولكن أسامة بن زيد رضي الله عنه عسكر خارج المدينة، لينظر ما يؤول إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي صبيحة يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم، خرج على أصحابه وهم يصلون الفجر، وكان وجهه كفلقة قمر، فلما رآه الصحابة فرحوا به، وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يصلون، وخشي أن يفتتنوا، فأشار إليها بإكمال الصلاة، ودخل بيته، وكانت تلك آخر نظرة ألقاها على أصحابه، ثم اشتد به الوجع، حتى توفي في ضحى ذلك اليوم في حجر أمنا عائشة رضي الله عنها . فتنكرت قلوب الصحابة، وطارت قلوبهم، وبعضهم لم يصدق موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب، ولكن أبو بكر كان أسكنهم، فثبتهم وتلا عليهم قول الله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاًً وسيجزي الله الشاكرين }.فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ .
وأزواجه صلى الله عليه وسلم هن: أولاهن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تزوجها قبل النبوة، ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة التي وهبت يومها لعائشة، ثم تزوج بعدها عائشة بنت الصديق، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وعمرها تسع سنين بالمدينة، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بأم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني أسد، وقد نزل فيها قرآناً وكانت تفخر على أزواج رسول الله صلىالله عليه وسلم بتزويج الله لها من فوق سبع سموات وذلك في قوله تعالى : { فلما قضى منها زيدٌ منها وطراً زوجناكها } الآية. ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية . ثم تزوج أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب القرشية . ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بن حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون ابن عمران أخي موسى، وهي وقعت في السبي لما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. ثم تزوج رسول الله صلىالله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج بها، وتزوجها بمكة بعد أن حلّ من عمرة القضاء .
وجواريه صلى الله عليه وسلم هن: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية أخرى أصابها من السبي، وجارية وهبتها له زبينب بنت جحش .
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث وستين سنة . أربعون عاماً قبل البعثة، وثلاث عشرة عاماً بمكة بعد البعثة، وعشر سنوات بالمدينة . صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين .