السيرة- سيرة التابعين الأجلاء- الدرس13|20: التابعي عمر بن عبد العزيز(1).
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما معنى هذا القول, وما هو الأمر المعول عليه ؟ |
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث عشر من سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيّ اليوم هو سيدنا عمر بن عبد العزيز، الذي عدَّه المؤرخون من أهل العلم العاملين، ومن الخلفاء الراشدين، وما أروعها أن تلتقي الخصائص الدينية بالخصائص الزمنية كما يقولون، وما أروع الإنسان أن يكون عالماً، وأن يكون عاملاً، وأن يتفوق في الدنيا، وأن يتفوق في الآخرة .
يقول هذا الخليفة العظيم: ((تاقت نفسي للإمارة، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة)) .
معنى ذلك: أن ليس في حياة المؤمن إثنينية؛ أعماله، مناصبه، تجارته، بيته، دخله، إنفاقه، طاقاته، أفكاره، أدبه، قلمه، مطالعاته، ثقافته، لهوه، كلها تَصُبُّ في هدف واحد، تاقت نفسي للإمارة، فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة، يغلب على الظن أنه تاقت نفسه للإمارة ليصل بها إلى الجنة، وتاقت نفسه للخلافة ليصل بها إلى الجنة، والدنيا مطيّة المؤمن، يتخذها وسيلة للتقرب من الله عز وجل .
بالمناسبة؛ هذه الحظوظ التي أتحدث عنها كثيراً، كلما نِلْتَ منها قسطاً أوفر, اتَّسعتْ قدرتُك على العمل الصالح، واتَّسعتْ بالتالي مسؤوليتُك .
أوضِّح هذا الكلام بمثال: فكلما صعدت إلى مستوى من الجبل اتسعت دائرة النظر، نحن إذا صعدنا إلى جبل قاسيون نرى الشام، لكن حينما نركب طائرة، وترتفع الطائرة أربعين ألف قدم, ترى مسافة تزيد عن مائتي كيلو متر بنظرة واحدة، ورواد الفضاء الذين ركبوا مركبتهم, رأوا الأرض بأكملها من هناك، هذه قاعدة .
كلما ارتفعت في مستوى الحظ الذي منحك الله إياه، ازدادتْ قدرتك على العمل الصالح، وازدادتْ مسؤوليتك، فأحياناً الإنسان القوي بتوقيع يلغي منكرًا، وبتوقيع يقيم المعروف، بتوقيع واحد .
تصور معلمَ مدرسةٍ، أو مدير مدرسة، أو مدير تربية، أو وزير تربية، كلما ارتفعت السلطة, اتَّسعت القدرة على الخير، وبالتالي ازدادت المسؤولية، فالإنسان الغني بإمكانه أن يحلّ مشاكل عدد كبير من الفقراء، وكل فقير يرقى به، فالمال حينما تمتلكه, بإمكانك أن تصل به إلى الجنة، لكن بالمقابل أنت مسؤول عن هذا المال الوفير، ومسؤولية الغنيِّ أشدُّ من مسؤولية الفقير، وهذا حظ المال .
أمّا حظ السلطة: فكلما ازددتَ قوةً, ازدادتْ قدرتُك على خدمة الخلق، وازدادتْ بالتالي مسؤوليتك .
العلم: كلما ازداد علمُك، ازدادتْ قدرتُك على إقناع الناس بالدين، فإن قصَّرتَ ازدادتْ مسؤوليتُك .
العلم قوة، والمال قوة، والسلطة قوة، هذه القُوى الثلاث في الأرض, عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه, قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ))
[ أخرجه مسلم في الصحيح]
أنـت حينما تتفوق في جانب من جوانب الحياة؛ إّما في العلم، وإمّا في السلطة، وإمّا في المال، تزداد قدرتك على العمل الصالح في أشياء غير متاحة لك، لأنه قد أُتيح لك شيء لا ينافسك عليه أحد، وهو العلم، يمكن أنْ يكون كسب المال صعبًا، ففي الظروف صعبة ليتك تحصل على قوت يومك، وبالمقابل .
عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم, ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه)) .
ربما كان تحصيل المال شيئًا صعبًا، وربما كان الوصول إلى مركز قوي صعبًا أيضًا، أما الشيء المتاح أنْ تطلب العلم، ولا تنسوا أنّ قوة العلم هي أقوى قوة، والدليل: أقوى أقوياء العالم لا يتحركون إلا باستشارة الخبراء، ليس هناك إنسان قوي في العالم يتخذ قرارًا إلا بعدما يأخذ رأي الخبراء، فالذين يحكمون في الحقيقة هم الخبراء، لذلك الإمام الشافعي حينما فسر قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 59]
قال: أولي الأمر: هم الأمراء والعلماء، العلماء يعرفون الأمر، والأمراء ينفذِّون الأمر ، فأن تجمع بين التفوق في الدنيا, والتفوق في الدين شيءٌ رائع جداً، والتفوق في الدنيا ليس للدنيا إطلاقاً، بل من أجل أن تزداد قدرتك على العمل الصالح.
أنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ آلاف مؤلفة من الشقاء، وأنت حينما تطلب العلم بإمكانك أن تنقذ الضالين، وحينما تكون غنيًّا بإمكانك أن تمسح دموع البائسين، وحينما تكون قوياً بإمكانك أن تنصف المظلومين، لذلك علوُّ الهمة من الإيمان، وباب العلم مفتوح على مصراعيه .
وقد قال بعض خلفاء أمية ينصح أولاده، قال لهم: ((يا أبنائي, تعلموا العلم، فإن كنتم سادة في الأصل فقتم، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم، وإن كنتم سوقةً عِشْتم)) من السوقة؛ أيْ من عامة الناس تعيش بالعلم، من الطبقة الوسطى تصبح سيداً، وإن كنت في الأصل سيداً تصبح متفوقاً.
أيها الأخوة, العلم أساس أيِّ تقدم، والحديث عن هذا الخليفة الذي يعد من أهل العلم، مَن يشبهه؟ سيدنا صلاح الدين الأيوبي، كان من العلماء العاملين، عامل عالم قبل أن يكون قائدًا، إنه عالم فقيه، يقرأ القرآن، ويفهم تفسيره، ويقرأ الحديث، وله باع طويل في العلم، فالحديث عن هذا الخليفة الزاهد خامس الخلفاء الراشدين حديث أطيب من نشر المسك، وأزهى من قطع الروض، وسيرته الفذَّة واحة معطرة، أينما حللت منها ألْفَيْتَ نبتاً طريا، وزهراً بهيا، وثمراً جنيا، وإذا لم يكن في وسعنا أن نستوعب الآن تلك السيرة التي ازدان بها التاريخ، فإنّ هذا لا يمنعنا أن نقطف من روضها زهرة، وأن نقتبس من نورها ومضة، ذلك لأنه ما لا يُدرَك كلُّه لا يُتْرَك بعضُه .
الأحوال التي طرأت على عمر بن عبد العزيز بعد أن استلم منصب الخلافة كما ذكرها الذاكرون : |
1- ما رواه سلمة بن دينار :
ينار عنه |
أول صورة: رواها لنا سلمة بن دينار، عالم المدينة، وقاضيها، وشيخها، قال: ((قدمتُ على خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، وهو بقرية من أعمال حلب، وكانت قد تقدّمتْ بيَ السنُّ، وبَعُد بيني وبيـن لقائه العهدُ، فوجدتُه في صدر البيت، غير أني لم أعرفه، لتغيُّر حاله عما عهدتُه عليه, يوم كان والياً على المدينة .
-عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: قال عليه الصلاة والسلام: ((لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت؛ ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم, وتبكون على أنفسكم)) .
أحيانًا الإنسان, يقال له: تعال إلينا بعد يومين، لنسألك عن بعض الموضوعات، لا ينام الليل، ولا يأكل، ولا يشرب، إنسان سيسألك، وأنت بريء، ولم تقترف إثماً، ولم ترتكب جرماً، ولك صفحة بيضاء ناصعة جداً، ومع ذلك لا تنام الليل، ولا تأكل، تقول: ماذا يريدون مني؟ يا ترى ما السؤال؟ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت؛ ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدَمون صدوركم, وتبكون على أنفسكم)) .
أيها الأخوة- قال: فرحّب بي، وقال: أدنُ مني يا أبا حازم، فلما دنوتُ منه, قلت: ألستَ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؟ قال: بلى، -هذا يعني أنّه تَغَيَّر تغيُّرًا شديدًا، وهذا الحزن المقدس، وهذا هو القلق المقدس، وهذا هو الخوف المقدس، هناك قلق على الدنيا، وخوف من الفقر، وخوف من زوال بعض النعم، وحزن على ما فات من الدنيا .
سيدنا الصديق رَضِي اللَّه عَنْه, قرأت عنه كلمة لا أنساها: ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلِّمنا من خلال بعض أدعيته، أن الدنيا لا قيمة لها، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
ماذا دعا؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ, وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ, اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ, اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
يعني بالنهاية زوجته ليست كما يريد، وبيته ليس كما يريد، ودخله ليس كما يريد، ((وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ))، الدنيا مشغلة، ومجبنة، ومبخلة، فربما لا تدري أن هذا الوضع المتوسط هو أنسب وضع لك أيها المؤمن، وأن هذه المشكلة هي التي دفعتك إلى الله، وأن هذه المصيبة هي التي حفزتك إلى باب الله، فلذلك أنا متأثر جداً بقول الإمام الغزالي: ((ليس في الإمكان أبدع مما كان)) فحينما أُخِذَ عليه هذا القولُ, فَسَّره بعضهم وقال: أيْ ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني- .
ألست أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؟ قال: بلى، فقلت: ما الذي حل بك؟ ألم يكن وجهك بهيًّا, وإهابك طريًّا, وعيشك رخيا؟ قال: بلى .
-يروون أنّ زوجته مرة دخلت عليه، فرأته يبكي، استغربت !! أمير المؤمنين يبكي, وهو في مصلاه، سألته فلم يجب، فلما ألَّحت عليه، قال: يا فلانة, إنَّ الله ولاّني أمر هذه الأمة، نظرت في الفقير الجائع، وفي ابن السبيل الضائع، وفي المقهور، وفي الذليل، والشيخ الكبير، وصاحب العيال الكثيرة، والدخل القليل، فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً، وأن حجيجي يوم القيامة هو رسول الله، فلهذا أبكي، لقد أدرك عظم المسؤولية .
أحيانًا هناك كلمات فَقَدت مدلولها، يقال: فلان مسؤول كبير، يظن أنّ هذا مدح مسؤول كبير، أيْ سوف يُسْأَل, قال تعالى:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤولُونَ﴾
[سورة الصافات الآية: 24]
فقلت: فما الذي غيَّر ما بك بعد أن غدوتَ تملك الأصفر والأبيض، وأصبحتَ أمير المؤمنين؟ فقال: وما الذي تغيّر بي يا أبا حازم؟ فقلت: جسمك الذي نحل، وجلدك الذي اخشوشن، ووجهك الذي اصفر، وعيناك اللتان خبتا، أو خبا وميضهما، فبكى، وقال: فكيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وتفسخ بطني وتشقّق، وانطلق الدود يرتع في بدني، إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم, لكنتَ أشدَّ إنكاراً لي من يومك هذا؟ .
-أيها الأخوة, وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ, لا أغبط أحداً في الدنيا, إلا رجلاً عرف ربَّه, فجهد في طاعته، هذا الذي أراه ذكياً، وأراه عاقلاً، وأراه يستحق الإعجاب والتقدير، بل هذا الذي عرف حقيقة الدنيا وتفاهتها، وعمل للساعة الحرجة التي لا بد منها، لساعة نزول القبر.
ورد في بعض الآثار: أنه أول ليلة يدفن فيها الإنسان في قبره, يقول الله عز وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت- .
ثم رفع بصره إلي، وقال: أما تذكر حديثاً كنت حدَّثتَني به في المدينة يا أبا حازم؟ فقلت: لقد حدَّثتُك بأحاديث كثيرة يا أمير المؤمنين، فأيها تقصد؟ فقال: إنه حديث رواه أبو ذر، فقلت: نعم أذكره يا أمير المؤمنين، فقال: أعده علي، فإني أريد أن أسمعه منك، فقلت: عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر, إن أمامك عقبة كؤودا, لا يقطعها إلا كل مخف, قال: يا رسول الله! أمنهم أنا؟ قال: إن لم يكن عندك قوت ثلاثة, فأنت منهم)) .
فبكى عمر بكاءً شديداً، خشيتُ معه أن تنشق مرارته، ثم كفكف دموعه, والتفت إلي، وقال: فهل تلومني يا أبا حازم، إذا أنا أهزلت نفسي لتلك العقبة رجاء أن أنجو بها، وما أظنني ناجٍ؟)) هذا الخوف المقدس، هذا القلق المقدس، هذا الحزن المقدس، هذا أرقى أنواع الحزن، أن تبقى خائفاً من الله، قلقاً على مصيرك الأخروي، هذه الصورة الأولى .
2- ما رواه الطبري عن الطفيل بن مرداس : |
الصورة الثانية من صور حياة عمر بن عبد العزيز: يرويها الطبري عن الطفيل بن مرداس، يقول: ((إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة, كتب إلى سليمان بن أبي السري واليه على الصغد كتاباً, قال فيه: اتخذْ في بلادك فنادقَ لاستضافة المسلمين، فإذا مرَّ بها أحد منهم, فاستضيفوه يوماً وليلة، وأصلحوا شأنه، وتعهدوا دوابه، فإذا كان يشكو نصباً ، السبب: أنه في عهد هذا الخليفة العظيم جمعت أموال الزكاة، وكأن الفقر قد انتهى، لذلك لم يجد هذا الخليفة مصرفاً للزكاة، فبدا له أن يفيَ عن الغارمين دَيْنَهم، ثم أمر بهذه المرافق الحيوية كي تكون في خدمة المسلمين، فإذا كان يشكو نصباً, فاستضيفوه يومين وليلتين، وواسوه، فإذا كان منقطعاً لا مؤنة عنده، ولا دابة تحمله، فأعطوه ما يسدّ حاجته، وأوصلوه إلى بلده، فصدع الوالي بأمر أمير المؤمنين، وأقام الفنادق التي أمره بإعدادها، فَسَرَتْ أخبارُها في كل مكان، وطفِق الناسُ في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها يتحدثون عنها، ويشيدون بعدل الخليفة وتقواه .
فما كان من وجوه أهل سمرقند, إلا أن وفدوا على واليها سليمان بن أبي السري، وقالوا: إن سلفك قتيبة بن مسلم الباهلي قد دهم بلادنا، من غير إنذار، ولم يسلك في حربنا ما تسلكونه معشر المسلمين، فقد عرفنا أنكم تدعون أعداءكم إلى الدخول في الإسلام، فإن أبوا دعوتموهم إلى دفع الجزية، فإن أبوا أعلنتم عليهم القتال، هؤلاء أهل سمرقند بَلَغهم أن هذه هي الطريقة الشرعية لفتح البلاد، أمّا هم فلم يُعرَض عليهم الإسلام، ولم يُدعَ إلى دفع الجزية، بل حوربوا مباشرة، فاشتكوا إلى الوالي الذي كان عليهم، اشتكوا سلفه الذي داهم بلادهم، وهو قتيبة بن مسلم الباهلي، يقولون:
وإنا قد رأينا من عدل خليفتكم وتقواه, ما أغرانا بشكوى جيشكم إليه، فقدَّم أهل سمرقند شكوى، والاستنصار بكم على ما أنزله بنا قائد من قوادكم، فأْذَنْ أيها الأمير لوفد منا بأن يَفِد على خليفتكم، وأن يرفع ظلامتنا إليه، اسمح لنا أن نرسل وفدًا إلى دمشق نرفع ظلامتنا على قتيبة بن مسلم الباهلي الذي داهمنا، ولم يسلك الطريقة التي شرعها نبيُّكم، فإذا كان لنا حق أعطيناه، وإن لم يكن لنا حق عدنا من حيث ذهبنا، فأذن سليمان لوفد منهم بالقدوم على الخليفة في دمشق، فلما صاروا في دار الخلافة، رفعوا أمرهم إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، فكتب الخليفةُ كتاباً إلى واليه سليمان بن أبي السري، يقول فيه:
أما بعد؛ فإذا جاءك كتابي هذا, فاجلِسْ إلى أهل سمرقند قاضياً, ينظر في شكواهم، فإن قضى لهم، فأمر جيش المسلمين بأنْ يغادر مدينتهم، وادعُ المسلمين المقيمين بينهم إلى النزوح عنهم، وعودوا كما كنتم، ويعودون كانوا قبل أن يدخل ديارهم قتيبةُ بن مسلم الباهلي .
فلما قدم الوُفد على سليمان بن أبي السري، ودفع إليه كتاب أمير المؤمنين، أَجْلَسَ إليهم قاضي القضاة، فنظر في شكواهم، واستقصى أخبارهم، واستمع إلى شهادة طائفة من جند المسلمين وقادتهم، فاستبان له صحة دعواهم، وقضى لهم عند ذلك، الآن صدر قرار مِن قاضٍ مسلم يحكم على جيش إسلامي بالخروج من سمرقند، لأن فتحها لم يكن شرعياً، عند ذلك أمر الوالي جندَ المسلمين أن يُخلُوا لهم ديارهم، وأن يعودوا إلى معسكراتهم، وأن ينابذوهم كرّة أخرى، فإما أن يدخلوا بلادهم صلحاً بالجزية، وإما أن يظفروا بها حرباً، وإما ألاّ يكتب لهم الفتح لو انهزموا، لم يصدَّقْ أهل سمرقند لما جرى، فما سمع وجوه القوم حكمَ قاضي القضاة لهم، حتى قال بعضهم لبعض: وَيْحَكُم، لقد خالطتُم هؤلاء القوم، وأقمتم معهم، ورأيتموهم من سيرتهم، وعدلهم، وصدقهم ما رأيتم, فاسْتَبْقوهم عندكم، وطِيبُوا بمعاشرتهم نفساً، وقرُّوا بصحبتهم عيناً)) .
3- ما رواه ابن عبد الحكم في كتابه : |
الصورة الثالثة من صورة حياة هذا الخليفة العظيم: يرويها لنا ابن عبد الحكم، في كتابه النفيس المسمى (سيرة عمر بن عبد العزيز)، فيقول: ((لما حضرت عمرَ الوفاةُ، دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، وقال: إنك يا أمير المؤمنين, قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال، فحبذا لو أوصيت بهم إليك، أو إلى من تفضله من أهل بيتك، فلما انتهى من كلامه, قال عمر : أجلسوني، فأجلسوه، فقال: قد سمعتُ مقالتك يا مسلمة، أمَا إنّ قولك: قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال، فإني واللهِ ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم، أما قولك: لو أوصيت بهم إلي، أو إلى من تفضله من أهل بيتك، فإنما وصيي وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين، واعلمْ يا مسلمة أن أبنائي أحدُ رجلين؛ إما رجل صالح متقن فسيغنيه الله من فضله, ويجعل له من أمره مخرجا، وإما رجل طالح مكبٌّ على المعاصي, فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى، ثم قال: ادعوا لي بنيّ، فدعوهم وهم بعضة عشر ولداً، فلما رآهم ترقرقت عيناه، وقلتُ - القائل مسلمة - في نفسي: فتية تركهم عالة لا شيء لهم، وهو خليفة، وبكى بكاءً صامتاً، ثم التفت إليهم، وقال:
أي بنيّ إني لقد تركت لكم خيراً كثيراً، فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين، أو أهل ذمتهم، إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً، -هذه السمعة الطيبة، كيفما مشى ابن الرجل الصالح, يقال له : رحمة الله على والدك، هذه ثروة كبيرة جداً- قال: يا بنيّ, إن أمامكم خياراً بين أمرين، فإما أن تستغنوا، أي أن تصبحوا أغنياء، ويدخل أبوكم النار، وإمّا أن تفتقروا ويدخل الجنة، ولا أحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى، كذلك ربّاهم تربية عالية، ربّاهم على محبته، ومحبة الحق، ثم نظر إليهم في رفق, وقال:
قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله، فالتفت إليه مسلمة، وقال: عندي يا أمير المؤمنين, ما هو خير من ذلك, فقال: وما هو؟ قال: لدي ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك ففرِّقها عليهم، أو تصدّق بها إذا شئت، فقال له عمر: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة؟! قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تردُّها لمن أخذتها منه، فإنها ليست لك بحق، فترقرقت عينا مسلمة، وقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً، فقد ألَنْتَ منا قلوباً قاسية وذكّرتها، وقد كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا، ثم تتبع الناسُ أخبارَ أبناء عمر من بعده، فرأوا أنه ما احتاج أحد منهم ولا افتقر)) غير معروف