مقدمة لقد اضطلع الشيعة بالعبء الأكبر من الوضع في الحديث؛ إذ كان الكذب متفشيًا فيهم أكثر من سائر طوائف أهل القبلة، حتى قيل: أكذب من رافضي. ومن عوامل الوضع انتحال بعض الكذّابين من الفرس خاصة مذهب التشيع والقيام بالدعوة لبعض آل البيت بغرض الوصول إلى الطعن في الإسلام، والطعن في الصحابة حَمَلة هذا الدين. ولولا تصدي جهابذة النقاد وأهل المعرفة بأحوال الإسناد لهؤلاء، وكشف كذبهم في الرواية لكان مصاب الإسلام بهم عظيمًا. على أن بداية الفكر الشيعي بمختلف أطيافه كان في القرن الأول الهجري، ثم نشط هذا الفكر في القرن الرابع الهجري وما تلاه، حيث ضم بين صفوفه جماعات مختلفة، يجمعها هدف مشترك هو إفساد العقيدة الإسلامية والغدر بأهل السنة، وتدمير مؤسساتهم العلمية والحكومية. وقد أفرز هذا الفكر دولاً مثل العبيديين والصفويين، سامت أهل السنة صنوف الاضطهاد والتنكيل، بفرض البدع عليهم، ومصادرة أموالهم، واستباحة دمائهم. كما قامت حركات القرامطة والحشاشين بغارات وأعمال السلب والنهب وترويع الآمنين وقتل الأبرياء. ولم يتورع العبيديون والحشاشون والصفويون من التحالف مع الصليبيين في بلاد الشام، ومع الفرنجة في أوربا لطعن أهل السنة من الخلف، وكان ابن العلقمي وزير المستعصم العباسي عونًا للوثنيين التتار الذين جاءوا لغزو المسلمين في عقر دارهم. ولا نبالغ حين نقول بأن الرافضة والباطنية من أخطر الفرق التي ابتليت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها المديد إلى يوم الناس هذا.
وضع الحديث وترويج الموضوعات على نطاق واسع مما لاشك فيه أن الغدر الأكبر الذي مارسه الشيعة في تاريخ الإسلام هو وضع الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الفعل لو حقق أهدافه المرجوة لأصاب دين الإسلام في مقتل، إذ سيختلط الحق بالباطل، ولن يستطيع الناس التمييز بين الوحي الرباني وكلام البشر؛ مما سينتج عنه آثار خطيرة مدمرة بالنسبة للتدين. ولكن الله تعالى سلَّم، فقيَّض للسنة الشريفة من يحفظها ويبعد عنها غوائل الدس والوضع؛ إذ انبرى جهابذة العلماء من أهل السنة لكشف هؤلاء الوضّاعين، فاتخذت جهودهم لمقاومة الكذب في الحديث جانبين؛ جانبًا نظريًّا: هو تأصيلهم للقواعد الدالة على الكذب، وجانبًا عمليًّا: ببيانهم الأشخاص المتهمين بالكذب وتعريف الناس بهم ليحتاط منهم. ويعود الوضع في الحديث إلى أن بعض الفرس انخرطوا في صفوف الشيعة وانتحلوا مذهبهم، وتظاهروا بحب آل البيت، وهم يهدفون بذلك إلى نشر آرائهم الباطلة وبثّ أفكارهم المعادية للإسلام، فاتخذوا آل البيت ستارًا يعملون من خلفه لتحقيق أهدافهم والوصول إلى مآربهم. وما الآراء التي نادوا بها إلا دليل على أن دعاة هذه الطائفة انتحلوا الإسلام بقصد هدمه وإفساده. ولما كان من الصعب الجهر بهذه الآراء ابتداءً، فقد ألبسوها ثوب التشيع ودثروها بحب آل البيت وتقوّلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته ما لم يقولوا. ومن أمثال هؤلاء: المغيرة بن سعيد، وأبو الخطاب محمد بن أبي زينب، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، الذي اعترف حين جيء به إلى محمد بن سليمان بن علي العباسي أمير البصرة ليقتله وأيقن بالموت أنه وضع أربعة آلاف حديث[1]. ومن ضمن خطط الرافضة تزييف الأخبار وترويج الشائعات الكاذبة التي استهدفت النيل من الإسلام بتشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ إن التشكيك في ثقتهم وعدالتهم هو تشكيك بالتالي في صحة الإسلام وعدم صلاحيته. فالصحابة -رضي الله عنهم- لهم قدرهم ومنزلتهم التي لا يوازيهم فيها أحد؛ فقد اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلوا المهج والأموال في سبيل الله، وهم نَقَلة الإسلام وحَمَلة الشريعة. إذن فالقدح فيهم قدح في الكتاب والسنة، كما قال أبو زرعة الرازي: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة"[2]. وقال الإمام مالك: "هؤلاء -يعني الرافضة ومن على شاكلتهم من الزنادقة- طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان له أصحاب صالحين"[3].
غدر الدولة العبيدية بأهل السنة لم تهتم هذه الدولة المعروفة باسم (الدولة الفاطمية) بالتوسع والامتداد خارج الرقعة الإسلامية بتدشين الفتوحات في الأراضي الرومية البيزنطية، وإنما ظلت بالعكس من ذلك تأكل الجسد الإسلامي؛ إذ قامت هذه الدولة في المغرب على يد عبيد الله المهدي، وجاست خلال الديار المسلمة من المغرب إلى الشام، وناوأت الدولة الأموية في الأندلس، وشغلتها عن خوض الحروب ضد الفرنجة في شمال الأندلس، ووراء جبال البرتات (البرانس)، بينما طبعت الهدنة والصلح العلاقات بين العبيديين والدولة البيزنطية. وفي هذا السياق يعترف الكاتب الشيعي علي الشمري بأن عدة اتفاقيات للصلح والهدنة تمت بين الدولة العبيدية والبيزنطيين، أوَّلها في عام 377هـ (987م) بين الإمبراطور "بارسيل الثاني" وحاكم العبيديين "العزيز"، وانهارت فأعادها القائد العبيدي "بركوان" الذي عول على مهادنتهم ليتسنى له التفرغ للقضاء على الفتن الداخلية في مصر. وبعد مراسلات سلمية بين قادة الدولتين استؤنفت المفاوضات، وتم الاتفاق على شروط الصلح وإبرام معاهدة صداقة بين مصر العبيدية والدولة البيزنطية. ثم تلاها في عصر "الظاهر" اتفاقية تتضمن أن لا يقوم العبيديون بأي عمل عدائي نحو حلب، حتى تقوم بسداد الجزية السنوية التي كانت تدفعها للدولة البيزنطية منذ عام 360هـ (970م)، وألا تمد الدولة العبيدية يد المساعدة لأي عدو من أعداء الدولة البيزنطية. وتجددت هذه الاتفاقية بين الحاكم العبيدي "المستنصر" والإمبراطور "ميخائيل الرابع" في عام 429هـ (1037م)[4]. ومن اللافت للنظر أن سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين في سنة 492هـ (1098م) كان بسبب شن العبيديين حروب كثيرة ضد الممالك الإسلامية في بلاد الشام، ووضع المسجد الأقصى تحت حماية هزيلة لم يتجاوز تعدادها اثني عشر ألف جندي، فيما اجتيحت مصر بجيش جوهر الصقلي البالغ عدده مائة ألف رجل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة العبيدية استمرت بعد هذه الفجيعة اثنين وثلاثين عامًا كاملة تبسط يدها على أراضي إسلامية شاسعة تحاول تغيير المذهب السني فيها بالقوَّة[5]. ويذكر المؤرخ "المقريزي" في خططه أنه لما ثقلت وطأة صلاح الدين على العبيديين في القاهرة، حنق عليه رجال القصر ودبروا له المكائد، فاتفق رأيهم على مكاتبة الفرنجة ودعوتهم إلى مصر، فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة، وانضموا إلى الفرنجة في محاربته والقضاء عليه. وفعلاً جاء الفرنجة إلى مصر وحاصروا دمياط في عام 565هـ (1169م)، وضيقوا على أهلها وقتلوا ناسًا كثيرًا، وجاءوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية[6]. ولما ضعفت دولتهم في أيام العاضد وصارت الأمور إلى الوزراء، وتنافس شاور وضرغام، فكر شاور في أن يثبت ملكه ويقوي نفوذه، فاستعان بنور الدين محمود فأعانه. ولما خلا له الجو لم يفِ له بما وعد، بل أرسل إلى "أملريك" ملك الفرنجة في بيت المقدس يستمده، ويخوفه من نور الدين محمود إنْ ملك الديار المصرية، فسارع إلى إجابة طلبه، وأرسل له حملة أرغمت نور الدين على العودة بجيشه إلى الشام، ولكن سرعان ما عاود نور الدين المحاولة في عام 562هـ، فاستنجد شاور بالصليبيين مرة ثانية وكاتبهم، وجاءت جيوشهم خشية أن يستولي نور الدين على مصر ويضمها إلى بلاد الشام فيهدد مركزهم في بين المقدس. ولما وصلت عساكر الفرنجة إلى مصر انضمت جيوش شاور والمصريين إليها، والتقت بجيوش نور الدين بمكان يعرف بالبابين (قرب المنيا)، فكان النصر حليف عسكر نور الدين محمود، ثم سار بعدها إلى الإسكندرية، وكانت الجيوش الصليبية تحاصرها من البحر وجيوش شاور وفرنجة بيت المقدس من البر، ولم يكن لدى صلاح الدين -القائد من قبل نور الدين- من الجند ما يمكنه من رفع الحصار عنها، فاستنجد بأسد الدين شيركوه فسارع إلى نجدته، ولم يلبث الصليبيون وشيعة شاور حتى طلبوا الصلح من صلاح الدين، فأجابهم إليه شريطة ألا يقيم الفرنجة في البلاد المصرية. غير أن الفرنجة لم تغادر مصر عملاً بهذا الصلح، بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها كما يقول ابن واصل: "أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية -أي حامية- وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين محمود عن إنفاذ عسكره إليهم. وكما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبيين مائة ألف دينار سنويًّا من دخل مصر"[7]. ويقول محمود شاكر: "لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول الأمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين، وبدأت الخلافات بينهم؛ فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعًا عن مناطقهم وخوفًا على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعًا عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام"[8].
غدر القرامطة بأهل السنة من المعلوم أن القرامطة فرقة سياسية وحركة عسكرية باطنية إسماعيلية، لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، ولكنها كانت كيانًا منظمًا يعتمد على البدو، وهم قطب الرحى في الغارات التي كانت تشنها هذه الحركة على البلاد المجاورة وتغنم منها، ثم يعود مقاتلوها إلى مركزها في الأحساء والبحرين[9]. على أن القرامطة كانوا أعداء ألدّاء للدولة العباسية؛ لأنها كانت دولة سنية تقف بالمرصاد لغلاة الشيعة من الباطنية[10]. لقد ظلت الدعوة القرمطية تنشط في السر إلى أن جاء أبو سعيد الجنابي (الحسين بن بهرام) من جنابة في بلاد فارس، فأقام بالبحرين تاجرًا، ثم جعل يدعو الناس إلى نحلته الفاسدة، فانتشرت في البحرين، ثم أنشأ لها فرعًا كبيرًا في الأحساء، وتبعها فئات من الناس[11]. وحين ظهر أمر أبي سعيد وقوي صيته، قاتل بمن أطاعه من عصاه، فنزل الأحساء[12]، ثم حاصر القطيف، وحاصر هجر عاصمة البحرين آنذاك شهورًا يقاتل أهلها، فاستولى عليها[13]، وقتل كثيرًا من أهل السنة، وخرب المساجد، وأحرق المصاحف، وفتك بالحجاج، وهاجم قوافلهم[14]. ثم خلفه ابنه سعيد الذي سلم الأمر إلى أخيه أبي طاهر بعد ذلك[15]. فسار هذا الأخير إلى البحرين، وخرب منازل الحاج، وقد كانت في الأمن والعمارة كالأسواق القائمة، وأغار على مكة، وقتل وسلب ونهب، وأثخن في المسلمين[16]. وتذكر المصادر أن قتلاه أكثر من قتلى بابك الخرمي وصاحب الزنج[17]. وفي زمن الخليفة المقتدر، كان من في بغداد من الباطنية قد راسلوا أبا طاهر هذا بضعف السلطان، وطلبوا منه أن يركب إلى بغداد ليستولي عليها، فسار القرامطة إلى العراق يقتلون وينهبون. وقال قائلهم: ما بقي شيء ينتظر، وما جئنا لإقامة دولة ولكن لإزالة شريعة[18]. ومن أعمالهم الشنيعة أنهم أغاروا على الحجاج في بيت الله الحرام، وسلبوا البيت، وقلعوا الحجر الأسود وحملوه معهم[19] إلى الأحساء[20]، وزعموا أنه مغناطيس يجذب الناس إليه من أطراف العالم[21]. وما فقهوا أن اعتدال الإسلام وعدله هما اللذان يجذبان الناس إلى ذلك المكان المبارك. وسبوا من النساء العلويات والهاشميات وسائر الناس نحو عشرين ألفًا[22]. وهكذا قامت هذه الحركة الباطنية الإباحية الهدامة على الأشلاء والدماء، وعبثت بالقيم والأخلاق، فدمرت القرى والمدن السنية، وقتلت الشيوخ والنساء والأطفال، ووصل بها الأمر إلى انتهاك حرمة الأماكن المقدسة. إنها لا تختلف عن الحركات الثورية اليسارية في عالمنا المعاصر؛ إذ نجد قاسمًا مشتركًا بينها وبين المنظمات السرية كالماسونية والمذاهب الفوضوية كالشيوعية التي تنادي بالإباحية والحرية بلا قيود، وترى أن الدين هو العدو الحقيقي للبشرية، وأنه لا بد من القضاء عليه.
غدر الحشاشين بزعماء أهل السنة والفتك بهم لما كان أهل السنة والجماعة هم حاملو راية الحق، ينهلون من الكتاب والسنة عقائدهم وتصوراتهم وعباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم وأخلاقهم، ويتمسكون بالدين الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أغاظ ذلك الباطنية الملاحدة الذين يضمرون العداوة والبغضاء لمن هو على النهج المستقيم، فراحوا يحيكون الدسائس والمؤامرات لاغتيال رموز أهل السنة وزعمائهم، "فأخذوا في التمكين لأنفسهم بتحصين قلاعهم وحشدها بالجند من (الفداوية)، مع التركيز على تدربيهم في مدرسة الكهف[23]؛ إذ حوَّلوا شبابًا في مقتبل العمر إلى مجموعات من القتلة المحترفين لا يهابون الموت، ولا يخشون الردى في سبيل تحقيق أغراض شيخهم ونيل مرضاته، فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وذلك الخسران المبين. لقد كان من المحتم أن يصطدم أهل السنة بالباطنية، فهم من غلاة الشيعة الذين امتلأت صدورهم كراهيةً وحقدًا على أهل السنة والجماعة، فواصلوا مهنتهم في الاغتيالات التي جعلتهم مروعين يخشاهم كثير من الناس؛ ولهذا الغرض سيطروا على عدة قلاع بين حمص وحماة ينطلقون منها لترويع الآمنين، ولمباشرة أعمالهم الإجرامية ضد زعماء السنة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين. وقد افتتح الباطنية نشاطهم في بلاد الشام بقتل "جناح الدولة" أمير حمص سنة 479هـ (1103م)[24]، ثم قتلوا "خلف بن ملاعب" صاحب أفامية بعد ذلك بثلاث سنوات؛ حيث قام "أبو طاهر الصائغ العجمي" زعيم الحشاشين بإرسال جماعة من أهل سرمين لاغتياله فقتلوه في 26 من جمادى الأولى سنة 499هـ (1105م)، وظل حصن أفامية بيد الباطنية حتى أخذه الفرنجة منهم في عام 500هـ (1106م)"[25]. وكان السلطان مودود -رحمه الله- أول من حرّك مشاعر الجهاد عند الأمة الإسلامية، فبدأ تحركه ووصل إلى دمشق. وكان أول من بدأ المعارك حتى حطم أسطورة الجيش الصليبي الذي لا يقهر، وأعاد للمسلمين الثقة بالنصر. فعندما وصل إلى دمشق اغتاله الباطنية في الجامع الأموي بعد صلاة الجمعة؛ ولهذا قال الصليبيون كلمة أصبحت مثلاً: "إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها". فالصليبيون أنفسهم لم يصدقوا أن أحدًا ينتسب لهذه الأمة يغتال السلطان مودود في داخل المسجد في يوم الجمعة في شهر رمضان وهو صائم من أجل أنه أراد أن يجاهد الصليبيين[26]! وفي عام 503هـ (1109م) هاجم الباطنية حصن شيزر على حين غفلة من أهله، فملكوه وأخرجوا من كان فيه، منتزعين إياه من أصحابه بني منقذ[27]. ولم يلبث أن وفد على الشام من فارس أحد زعماء الباطنية واسمه "بهرام"، فنزل في حلب ثم انتقل إلى دمشق؛ حيث حظي برعاية أميرها طغتكين، "وأكرم لاتقاء شره وشر جماعته، وحملت له الرعاية وتأكدت به العناية"، كما يقول القلانسي[28]. على أنه خشي أهل دمشق وهم من السنة، فما زال يسعى عند "طغتكين" حتى منحه حصن بانياس عام 520هـ (1126م)، ويذكر ابن الأثير أن تسلمه هذا الحصن جاء كارثة على البلاد؛ إذ عظم به الخطب وحلت المحنة بظهوره، واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين لا سيما أهل السنة[29]. أما ابن القلانسي فيقول بأن "بهرام" لم يكد يستولى على بانياس حتى "اجتمع إليه أوباشه من الرعاع والسفهاء والفلاحين والعوام وغوغاء الطغام الذين استغواهم بمحاله وأباطيله، واستمالهم بخدعه وأضاليله، فعظمت المصيبة بهم وحلت المحنة بظهور أمرهم، وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة والمقدمين…"[30]. وهكذا لم يستطع الناس الاعتراض على أعمال الباطنية؛ نظرًا لحماية "طغتكين" لهم من ناحية، ولعنف وسائلهم ووحشية انتقامهم من ناحية ثانية؛ "إذ شرعوا قتل من يعاندهم ومعاضدة من يؤازرهم على الضلال، ويرافدهم بحيث لا ينكر عليهم سلطان ولا وزير ولا يفلُّ حدَّ شرهم متقدم ولا أمير"[31]. وفي عام 520هـ (1130م) قتلوا "البرسقي" أتابك الموصل[32]، وفي عام 523هـ (1130م) أرسل الباطنية من مركزهم في قلعة آلموت اثنين من الباطنية لقتل "تاج الملوك بوري" أتابك دمشق والانتقام منه لما حلَّ بإخوانهم في دمشق وبانياس. وقد تحايل هذان القاتلان على تنفيذ غرضهما حتى نجحا في الاعتداء على بوري، ولكن إصابته لم تكن قاتلة، فأبرأ وفشلت خطة الباطنية[33]. ويروي أبو شامة المقدسي في تاريخه كيف حاول الباطنية اغتيال "صلاح الدين الأيوبي" قاهر الصليبيين وأسد حطين مرتين، ولكن المحاولتين فشلتا بإذن الله، ولم يصب بأذى. ففي عام 570هـ (1174م) بعث "سعد الدين غومشكين" بمبلغ كبير من المال إلى "سنان" زعيم الباطنية من أجل أن يغتال "صلاح الدين"، فأرسل "سنان" عددًا من رجاله فهاجموا "صلاح الدين" على حين غرة إلا أنهم قتلوا جميعًا دون أن يتمكنوا من إزهاق روحه؛ إذ بدر واحد من الحشاشين الذين اختلطوا بجند السلطان وبيده سكينًا مشهورًا قاصدًا السلطان ليهجم عليه في خيمته، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه "طغويل أمير جاندار" فقتله، وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة من الجند[34]. وفي عام 571هـ (1107م) تقدم "صلاح الدين" نحو قلعة عزاز، وبينما كان يحاصر تلك البلدة، وثب عليه أحد الباطنية وهو في زي الجند وطعنه بخنجر في رأسه، لكن صفائح الحديد المدفونة في خوذته عاقته ولفحت المدية خده فخدشته، وأمسك صلاح الدين بالباطني الذي استمر في هجومه عليه دون أن يتمكن من طعنه، وقتل وهو على هذه الحال من قبل مرافقي السلطان. ثم وثب آخر على السلطان وقتل أيضًا، وخرج آخر من الخيمة منهزمًا فثار عليه الجند فقطعوه[35]، وردَّ الله تعالى كيد الباطنية في نحورهم، فلم يحققوا بغيتهم. ويطول بنا الأمر لو حاولنا تسجيل كافة الاغتيالات التي نفذها الحشاشون في رموز وزعماء أهل السنة. وهكذا أثر انتشار المذهب تأثيرًا سلبيًّا في مجريات الأحداث في تلك الفترة القلقة من تاريخ المسلمين؛ إذ ظل أهل السنة منهكي القوة، مشتتي الجهود بين القضاء على خطرين جسيمين: الباطني، والصليبي. لكن الخطر الباطني كان أفدح وأدهى وأمرّ؛ إذ كان يمس الجبهة الداخلية في الصميم، تتزعمه مجموعة من المنافقين المرتدين المندسين في صفوف المسلمين الذين انخلعوا من ربقة الإسلام، واستحلوا المحرمات. ويصف المؤرخ كمال الدين بن العديم حالهم بقوله: "في عام 572هـ (1176م) انخرط سكان جبل السماق في الآثام والفسوق، وأسموا أنفسهم المتطهرين، واختلط الرجال والنساء في حفلات الشراب، ولم يمتنع رجل عن أخته أو ابنته، وارتدت النساء ملابس الرجال، وأعلن أحدهم بأن سنانًا هو ربه"[36]. وهكذا ظلت طائفة الإسماعيلية الباطنية مصدرًا خطيرًا للانحلال الفكري والسياسي والاجتماعي في بلاد الشام خلال عصر الحروب الصليبية، في وقت كان المسلمون في حاجة ماسة إلى من يشد أزرهم ويعضد قوتهم، لا إلى من يقوض وحدتهم، ويشتت جهودهم، وينسفهم من الداخل.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: ابن الجوزي: الأحاديث الموضوعة 1/37، والعراقي: الفتح المغيث في شرح ألفية الحديث ص127. [2] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص49. [3] انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/429. [4] نقلاً عن أمير سعيد: خريطة الشيعة في العالم، ص59. [5] المرجع السابق، ص60 (بتصرف). [6] الخطط والآثار 2/2 (نقلاً عن المرجع السابق، ص66). [7] ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ص152. [8] محمود شاكر: تاريخ الإسلام 6/252-257. [9] انظر مقال المؤلف: القرامطة في الخليج العربي: ظروف نشأتهم، تعاليمهم، أساليبهم، كيانهم. مجلة البيان، عدد 240. [10] ثابت بن قرة: تاريخ أخبار القرامطة (انظر: الجامع في أخبار القرامطة، ص16، 17). [11] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 10/75. [12] المقريزي: المقفى 3/294. [13] القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/380. [14] البغدادي: الفرق بين الفرق ص218، والحفني: موسوعة الفرق ص319. [15] ثابت بن قرة: تاريخ أخبار القرامطة (الجامع، ص35). [16] القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/384. [17] الجامع في أخبار القرامطة، ص157-168. [18] القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/383. [19] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/203. [20] ناصر خسرو: سفر نامه، ص160. [21] القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2/385. [22] المرجع السابق 2/385. [23] انظر: ميشيل لياد: الإسماعيليون، ص106. [24] سعيد عبد الفتاح عاشور: تاريخ العلاقات بين الشرق والمغرب، ص345. [25] علي عبد السميع الخبزوري: الحروب الصليبية، ص228. [26] أسامة بن منقذ: الاعتبار، ص77. [27] سفر الحوالي: عوامل نجاح الحروب الصليبية. [28] تاريخ دمشق، ص342. [29] الكامل في التاريخ 8/319. [30] ذيل تاريخ دمشق، ص225. [31] ابن القلانسي: تاريخ دمشق، ص343. [32] ابن العديم: زبدة الحلب من تاريخ حلب 2/598. [33] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق، ص230. [34] كتاب الروضتين 2/350. [35] المصدر السابق 2/309، 412. [36] زبدة الحلب من تاريخ حلب 3/777.
المصدر/ مجلة البيان |