أبو الدرداء
أيّ حكيم كان
بينما كانت جيوش الإسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادرة ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:
" ألا أخبركم بخير أعمالكم, وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:
" أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:
" ذكر الله...
ولذكر الله أكبر"..
**
لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى جاء نصر الله والفتح..
بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا الى التأمل, وأوى الى محراب الحكمة, ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..
واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا, فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..
وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم, ورشد, وعظمة..
ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آياته..
( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!
**
والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
انه ضياء الحكمة, وعبير الايمان..
ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!
سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
" التفكر والاعتبار".
أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
" تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..
ويوم اقتنع بالاسلام دينا, وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..
ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
" أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..
ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!
أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤل, ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..
لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...
ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..
ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..
وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه, ورسوله والاسلام..
سمّوه ان شئتم تصوّفا..
ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!
أجل..
ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم, القدّيس..
ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه, وزادها بصدره..
رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
سعداء, أولئك الذين يقبلون عليه, ويصغون اليه..
ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..
ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...
ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
" ما قلّ وكفى, خير مما كثر وألهى"..
ويقول عليه السلام:
" تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله اليه بكل خير أسرع".
من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
" اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..
سئل:
وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
فأجاب:
أن يكون لي في كل واد مال"..!!
وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
هنالك يقول:
" من لم يكن غنيا عن الدنيا, فلا دنيا له"..
والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.
ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.
فهو يقول:
" لا تأكل الا طيّبا..
ولا تكسب الا طيّبا..
ولا تدخل بيتك الا طيّبا".
ويكتب لصاحب له فيقول:
".. أما بعد, فلست في شيء من عرض الدنيا, والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا, فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:
اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله, فيسعد بما شقيت به..
واما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية الله, فتشقى بما جمعت له,
فثق لهم بما عند الله من رزق, وانج بنفسك"..!
كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":
قال له:
" يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟
فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
ويحك يا جبير..
ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة, لها الملك, تركت أمر الله, فصارت الى ما ترى"..!
أجل..
وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة, افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين صحيح يصلها بالله..
ومن هنا أيضا, كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح, فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!
**
وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه, كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..
دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..
فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
فأجابهم وهو يشير بسبّابته, وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
" ان دارنا هناك..
لها نجمع.. واليها نرجع..
نظعن اليها. ونعمل لها"..!!
وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها أبو الدرداء منه.
وعجب الناس لهذا التصرّف, فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
" ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام على رأسها الخدم والخصيان وبهرها زخرف القصور..
أين دينها منها يومئذ"..؟!
هذا حكيم قويم النفس, ذكي الفؤاد..
وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها, ويولّه القلب بها..
وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..
فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
وانه ليقول:
" ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه, وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده, وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم خطيبا:
" يا أهل الشام..
أنتم الاخوان في الدين, والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..
ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
تجمعون ما لا تأكلون..
وتبنون ما لا تسكنون..
وترجون ما لا تبلّغون..
وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون, فيوعون..
ويؤمّلون, فيطيلون..
ويبنون, فيوثقون..
فأصبح جمعهم بورا..
وأموالهم غرورا..
وبيوتهم قبورا..
أولئك قوم عاد, ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".
ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:
" من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!
رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!
العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:
انه يقول:
التمسوا الخير دهركم كله..
وتعرّضوا لنفحات رحمة الله, فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
" وسلوا الله أن يستر عوراتكم, ويؤمّن روعاتكم"...
كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.
هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..
فلنستمع له ما يقول:
" مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترّين"..
ويقول أيضا:
"لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
ولا تحاسبوهم دون ربهم
عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!
انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
عليه أن يحمد الله على توفيقه, وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
" مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
قالوا بلى..
قال: فلا تسبّوه اذن, واحمدوا الله الذي عافاكم.
قالوا: أنبغضه..؟
قال: انما أبغضوا عمله, فاذا تركه فهو أخي"..!!
**
واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء, فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:
" لا يكون أحدكم تقيا حتى يكون عالما..
ولن يكون بالعلم جميلا, حتى يكون به عاملا".
أجل..
فالعلم عنده فهم, وسلوك.. معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..
ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم, نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة, والمثوبة..
ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
ها هو ذا يقول:
" مالي أرى العلماء كم يذهبون, وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
ويقول أيضا:
" الناس ثلاثة..
عالم..
ومتعلم